شكراً غريتا.. شكراً ريما

11 يونيو 2025

غريتا تونبرج تتحدث وريما حسن (يمين) في مؤتمر صحفي في قطانية جنوب إيطاليا (1/6/2025 Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

في ليلة الثامن والتاسع من يونيو/ حزيران 2025، ارتَكبت إسرائيل جريمة جديدة بحقّ السّلام تنضاف إلى سجلّها المليء بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية. على الهواء مباشرة، وفي المياه الدولية، قرصن جيش الاحتلال سفينة "مادلين" الشراعية، التابعة لتحالف أسطول الحرية، وصعد عساكره المدجّجون بالسلاح إلى سطحها واختطفوا ركّابها الاثني عشر. هؤلاء ليسوا مهاجمين ولا لصوصاً أو مهاجرين غير نظاميين. إنهم نشطاء مناضلون سلميون ينتمون إلى الحركة الدولية لكسر الحصار غير القانوني المفروض على أهل غزّة. مركبهم الشراعي المتواضع محمّل بالقليل من المساعدات الرمزية؛ أرز ومعلبات ولوازم أطفال، لا يمكنه إطعام أكثر من مليونَي فلسطيني حكمت عليهم إسرائيل بالموت جوعاً، لكنّهم كانوا يحملون معهم بصيصَ أمل لشعبٍ يستشهد، وصرخة إنسانية لكسر الصمت المتواطئ مع المجرمين، وتحدياً سلمياً للحصار والإبادة الجماعية وحرب التجويع التي تقتل ببطء.

ركّاب السفينة، التي أطق عليها أصحابها "مادلين"، تيمّناً بسيدة فلسطينية تعمل بصيد الأسماك في بحر غزّة، في إشارة إلى صمود المرأة الفلسطينية، وقدرتها على تحدّي حرب الإبادة التي يواجهها شعبها، ليسوا نكرات، وإنما هم ناشطون بارزون، كل في مجال نشاطه، منهم السويدية المدافعة عن البيئة غريتا تونبرغ، والنائبة الأوروبية ريما حسن، أول نائبة من أصول فلسطينية تدخل إلى البرلمان الأوروبي، والممثل الإيرلندي ليام كاننغهام بطل مسلسل "صراع العروش"، وياسمين عكار الناشطة في مجال الدفاع عن اللاجئين وحقوق الإنسان، وهي ألمانية من أصول كردية تُعرف بمناصرتها القضية الفلسطينية، وثُلّة أخرى من الناشطين من جنسيات مختلفة فرنسية وبرازيلية وتركية وهولندية. ومع ذلك لم تشفع لهم شهرتهم ولم تحمِهم سلميّتهم ولا حصنتهم جنسياتهم، وجرت قرصنة مركبهم واختُطفوا أمام أعين العالم قبل أن يُساقوا إلى الأسر داخل إسرائيل، جريمتهم الوحيدة رغبتهم في كسر حصار لا إنساني يخنق سكان غزّة منذ نحو عقدَين، ولفت الأنظار إلى معاناة نحو مليونَي فلسطيني حكمت عليهم إسرائيل بالاختيار ما بين الموت تحت القنابل أو الموت جوعاً.

تقاعس الحكومات الغربية بمثابة تواطؤ ضمني مع نظام يضاعف جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يوماً بعد يوم

ما حصل في ليلة الثامن والتاسع من يونيو الجاري ليس مجرّد هجوم روتيني على قارب مخالف للقانون، وليس مجرد مشهد لتصدّر الترند العالمي على "السوشيال ميديا" بقصد لفت اهتمام المعجبين فترة، إنه خرق سافر للقانونَين، الدولي والبحري؛ لأن اعتراض سفينة مدنية في المياه الدولية عمل ينتهك حرية الملاحة، ويُعتبر من أعمال القرصنة الحكومية التي ارتكبتها إسرائيل بلا خجل ولا خوف من أي معاقبة دولية، وهذه ليست المرّة الأولى التي تَرتكب فيها عملاً عدوانياً ضد سفينة مدنية تقوم بمهمة إنسانية، فقد سبق لها أن هاجمت سفينتَي مرمرة وكونساينس، واليوم تُصعّد عنفها مجدّداً باستهدافها سفينة مدنية سلمية أخرى، كما أن اعتقال ركّاب السفينة واقتيادهم إلى التحقيق والأسر غير قانوني يعتبر في القانون اختطافاً وعملاً إرهابياً مداناً. وفي العمق، المستهدف حركة التضامن العالمية مع مأساة الشعب الفلسطيني، والاعتداء على مَن يمثلون هذه الحركة اعتداء على البشرية جمعاء، لأنه يجرّم فكرة التضامن الإنساني في حدّ ذاتها.

هؤلاء النشطاء يُعتبرون، وبحكم القانون الدولي، مُختطفين، وفعل اختطافهم في حدّ ذاته يعتبر جريمة مزدوجة؛ لأنه ينتهك حرّية الملاحة وحرّية مساعدة شعب يعاني من المجازر والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. ومع ذلك، في مواجهة هذه الجريمة، يصمّ الآذانَ صمتُ القادة الأوروبيين الذين ينتمي هؤلاء النشطاء المختطفون إلى بلدانهم. وعلى عكس ما حدث في 7 أكتوبر (2023)، عندما أسرت المقاومة الفلسطينية جنود الاحتلال والمستوطنين، لم تسارع الحكومات الغربية إلى إدانة الخاطفين. أما الرئيس الفرنسي، الذي أقام الدنيا بسبب وجود جنود صهاينة يحملون جنسية بلاده أسرى لدى المقاومة الفلسطينية، فاكتفى بالمطالبة بإطلاق سراح ثمانية فرنسيين مختطفين لدى إسرائيل من ركاب سفينة "مادلين"، من بينهم برلمانية تمثل الشعب الفرنسي هي ريما حسن، ولم يجرؤ على تسمية الأشياء بمسمّياتها، ويدين فعل الاختطاف ومن ارتكبه أمام كاميرات العالم، في حين شهدت بلاده خروج أكثر من 146 وقفة احتجاجية في أكثر من مدينة للتنديد بالاختطاف ومعاقبة المختطِفين.

شكراً غريتا وشكراً ريما، لأنكما علّمتمانا أن التزام الصمت ليس تواطؤاً مع المجرمين فحسب، بل إهانة لصاحبه

تقاعس الحكومات الغربية بمثابة تواطؤ ضمني مع نظام يضاعف جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يوماً بعد يوم، وينتهك القانون الدولي، أما الصمت العربي الرسمي المخزي فتلك قصة أخرى. لذلك نتساءل بسذاجة: لماذا لا يستمر نتنياهو وحكومته الفاشية وجيشه النازي في تنفيذ جرائهم في تحدٍّ سافر للعالم وقوانينه؟ إنه الصمت الذي يرافق كل تجاوزاته للقانون الدولي، والتواطؤ الذي يمدّه بالسلاح والخبرة والمساعدة، والجبن الذي يصوّر جرائمه أعمالاً بطولية، فلماذا إذاً يحرم نفسه من ارتكاب مزيدٍ من الجرائم ضد الإنسانية كلّ يوم، ليروي عطشه المرَضِيّ من الدماء الفلسطينية؟

قد تبدو سفينة "مادلين" فعلاً رمزيّاً للغاية في كل أبعاده، لكنّه يعيد تذكيرنا للمرّة الألف بازدواجية المعايير الغربية، بل وبالسقوط الأخلاقي الغربي المدوّي كلما تعلق الأمر بجرائم إسرائيل، ويزيد من فضح الجبن والعجز العربي عن نصرة أخوة لنا يقَتَّلون على مرمى حجر من بعض بلدانها. أما السفينة وركابها فإن رسالتهم قد وصلت عندما أجبروا عديدين في العالم على فتح أعينهم على الجرائم الصهيونية التي حوّلت غزّة من أكبر سجن مفتوحٍ في العالم، إلى أكبر مقبرة جماعية يدفن فيها الناس أحياء على الهواء.

الجميع، بمن فيهم ركاب السفينة المختطفون، كانوا يعرفون أنهم لن يحقّقوا مهمتهم، وأن سفينتهم لن تصل إلى شواطئ غزّة المحاصرة، لكنّهم أرادوا أن يوصلوا إلينا رسالة واحدة بسيطة، لكنّها قوية في رمزيّتها، مفادها بأنّ الإرادة لا تكسر. أليس هذا هو الدرس الذي تعلموه هم أنفسهم من سكّان غزّة الذين يسعون إلى إنقاذهم؟ شكراً غريتا وشكراً ريما، لأنكما علّمتمانا أن التزام الصمت ليس تواطؤاً مع المجرمين فحسب، بل إهانة لصاحبه. شكراً لكما لأنّ سفينتكما ذكّرتنا بقيم الحرية والتضامن والإخاء واللاعنف والعدالة والسّلام، شكراً لكما، فقد تردّد صدى صوتكما في كلّ أرجاء العالم، ورسالتكما وصلت.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).