شكراً أيها الشك
(بهرام حاجو)
ليس الشكُّ عدوّاً كما قد نظنّ أحياناً، بل هو رفيقٌ حذرٌ يمنعنا من السقوط في فخاخ الحياة التي تُزيّنها الأوهام. هو ذلك الصوت الداخلي الذي يتردّد حين يكون الجميع متأكّدين. هو التردّد الذي يُنقذنا من الاندفاع الأعمى. هو التريّث الذي يفتح أعيننا على تفاصيل لم نكن لنراها لو أسرعنا الخطى خلف ما نظنّه يقيناً.
قالها فولتير ببساطة مذهلة: "الشكّ وضعٌ غير مريح، لكنّ اليقين سخيف"، وكأنه أراد أن يُخبرنا بأن القلق الذي يصاحب الأسئلة أفضل بكثير من الغباء الذي يصاحب الإجابات القاطعة. أنا شخصياً ممتنّة للشكّ، ممتنة للحظات التردّد التي منعتني من اتخاذ قراراتٍ كنتُ سأندم عليها لاحقاً، ممتنّة لذلك الشعور غير المريح الذي أبقاني متيقّظةً، حين بدا كلّ شيء واضحاً لدرجة مُريبة.
في كلّ مرة كنتُ على وشك أن أندفع خلف يقينٍ مزيّف، جاءني الشكُّ يداً خفيةً تسحبني للخلف، كأنّه يُحذّرني: "مهلاً، هل أنتِ متأكّدة؟ هل رأيتِ الصورة كاملةً؟ هل تملكين الإجابات كلّها؟". وحين كنتُ أستجيب له، حين كنتُ أتوقّف للحظة وأعيد التفكير، كنتُ أرى ما كان مخفياً، وما كان يمكن أن يُكلّفني كثيراً لو أنني وثقتُ باندفاعي الأحمق.
أعرف أن العالم يُحبّ اليقين، يتعامل معه فضيلةً عظيمةً، وأن البشر يُقدّسون الإجابات الحاسمة، فيعجبهم من يتحدّث بثقة، كأنّ الشكّ ضعف أو عيب. لكن، ألم يكن اليقين المطلق سبباً في كوارث كثيرة؟ كم من حروبٍ اشتعلت لأن أحدهم كان متأكّداً أنَّه على حقّ؟ كم من أشخاصٍ دُمِّرت حياتهم لأنهم وثقوا بلا شكّ في من لم يكن يستحق؟ كم من قراراتٍ قاتلةٍ اتُّخِذت لأن أحدهم لم يتوقّف ليسأل: "ماذا لو كنتُ مخطئاً؟".
الشكّ ليس راحةً، أعترف بذلك. هو طريق وعر، مرهق، يحتاج إلى قلب قويٍّ يحتمل التردّد، يحتاج إلى عقلٍ لا يهرب من الأسئلة الصعبة. لكنّني أفضّل أن أمضي في هذا الطريق الصعب على أن أعيش في يقين مُزيَّفٍ يجعلني أكتشفُ الحقيقةَ بعد فوات الأوان. الشكّ علَّمني ألا أصدّق كلّ ما يُقال، أن أُعيد النظر في النيّات خلف الكلمات، أن أُدقّق في الأفعال بدلاً من أن أنخدع بالوعود.
لا يعني هذا أن أعيش في دوامةِ ارتيابٍ دائم، بل أن أُبقي الباب مفتوحاً دائماً لاحتمال الخطأ، وأن هناك زاويةً لم أرها بعد، وأن ما يبدو واضحاً قد يكون مجرّد انعكاسٍ مُضلّل. نعم، الشكّ هو الذي أنقذني من صداقاتٍ سامّة، ومن قراراتٍ كارثية، ومن خياراتٍ كنتُ أظّنها مثالية، ثمّ أدركتُ أنها لم تكن سوى وهم مُجمّل.
هناك لحظات في حياتي أتذكّرها بوضوح؛ لحظاتٌ كنتُ فيها على وشك أن أقفز في قراراتٍ بدت لي حينها صحيحةً تماماً، لكن شيئاً في داخلي تمهّل. ربّما كان قلبي، ربّما كان حدسي، ربّما كان خوفي من أن أكون مُخطئةً، لكن في كلّ مرّة تباطأتُ، في كل مرة استسلمتُ لقلق الشكّ، كنتُ أرى الحقيقة تتجلّى أمامي، بوضوحٍ لم أكن لأراه لو كنتُ متيقّنةً منذ البداية. الشكُّ ليس عدوّاً، بل هو مرشد خفي، دليل يبقيك يقظاً، يحميك من أن تصبح مجرّد أداةٍ في يد اليقين الأعمى.
لكن ليس كلّ شكٍّ جيّداً، هناك شكٌّ قد يدمّرك، قد يجعلك سجيناً لأوهامٍ لا وجود لها، أمّا الشكَّ المتّزن، فذلك الذي يجعلك تُفكّر ملياً، ويمنحك القدرة على التراجع حين يكون التراجع هو القرار الأصحّ، ذلك الشكُّ هو ما يُنقِذنا.
كان فولتير محقّاً، الشكّ ليس مريحاً، لكنّه ضروري. واليقين، مهما بدا مُغرياً، قد يكون أقصر الطرق للندم.