شعراء على البلاط

شعراء على البلاط

12 يونيو 2022

الملكة إليزابيث الثانية والشاعرة كارول آن دفي في قصر باكنغهام في لندن (9/7/2009/Getty)

+ الخط -

لديّ سابق معرفة ببعض الامتيازات الغريبة الخاصة بملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، التي تحتفل هذه الأيام بالذكرى السبعين لجلوسها على العرش، باستثناء حقّها في امتلاك "شاعر البلاط"، فقد عرفتُ، أخيرا، أن ثمّة شاعرة في قصر بكنغهام، تدعى كارول آن دفي، تتقاضى راتبًا مجزيًا لقاء تدبيج قصائد المديح في الملكة وإنجازاتها، ويعدّ هذا الأمر حقًّا ملكيًّا خاصًّا لها. .. وهو ما دفعني إلى التساؤل: أما زال ملوك الغرب يتأثرون بكيل المدائح الشعرية، وينتفشون بالتصفيق، على غرار ملوكنا وزعمائنا؟ أتساءل، وفي ذهني أن بقايا المناصب الملكيّة القائمة في بعض البلاد الأوروبية رمزية وفخرية لا علاقة لها بالحكم وشؤونه، ولن تعظّم قصيدة المديح من شأن الملك في عيون الشعب؛ لأن حيّزه السياسي أصبح محدودًا ومعلوم الصلاحيات، ولم تعد عبادة الفرد متاحة أصلًا في بلاد الحريات والديمقراطيات التي دفعت أفدح الأثمان في حروبها العالمية كي تتخلّص من تلك الآفات، فلماذا، إذن، تصرّ ملكة بريطانيا على إحاطة طاقمها بشاعرة بلاط؟

لا أريد أن أصدّق أن الملكة إليزابيث استهوتها مدائح الشعر العربي في الملوك والأمراء، منذ مدائح المتنبي في سيف الدولة، وصولًا إلى مدائح محمد مهدي الجواهري في "خازوق الدولة" حافظ الأسد، الذي جعله "فخر من ولدته الأمة العربية"، فهي، أعني الملكة إليزابيث، تدرك حيّزها السياسي جيدًا، وتعرف صلاحياتها الرمزية التي لا تتعدّى قيادة السيارة بلا رخصة، وتسجيل سائر طيور البجع والحيتان والدلافين والسلاحف وسمك الخفش والأوز العراقي باسمها، وحقّ الاستحمام في مقصورتها في القطار الملكي، وتعرف أنها ملكة بلا إنجازات تستحق الثناء، بل على الأغلب هي تستحق الرثاء؛ لأنها ملكةٌ لم تظفر بأمجاد أجدادها من ملوك بريطانيا، الذين جمعوا سائر أركان السلطة تحت عروشهم، بينما لم تحز هي غير اللقب وإكسسوارات السلطة من تاج وكرسيّ ومراسم، وبضعة حرّاس مجمّدين على أبواب القصر بملابس مزركشة، وبحفاضات داخلية تتيح لهم التبوّل من دون تلويث بناطيلهم؛ لأنهم لا يستطيعون مغادرة مواقعهم لأيّ سبب، خشية خدش المشهد المهيب للقصر الملكيّ الذي يجتذب السيّاح من الخارج.

ربما كنتُ مدينًا باعتذار، إذن، لملوكنا وزعمائنا، الذين لم يخصّص أغلبهم شاغرًا في قصره لشاعر مدّاح بعينه، فهم آثروا أن يستبدلوا الراتب بالهبات والأعطيات، وتركوا لشعراء المدائح أن يتسابقوا ويتنافسوا في بلاطهم لكتابة القصيدة "الأجود"، وقد تأتي المكافأة على شكل منصب رسميّ خارج القصر وطاقمه؛ لأن الشاعر غير موثوق به، متقلّب الأهواء، ولا ينبغي له أن يرى الأسرار عن كثب، وفي تجربة المتنبي مع المدح والذمّ عبرة للملوك.

ومع الاعتذار، ثمّة اقتراح أيضًا، يطرحه شاعر مدّاح، على ملوكنا وزعمائنا، أن الشعوب العربية على استعداد أن تقدّم لهم ما يفوق امتيازات صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا، ولهم أن يختاروا ما يشاءون لنسجّله بأسمائهم، كالدجاج مثلًا، إن شاءوا، زيادة على البجع والبطّ والدلافين المسجلة باسم إليزابيث الثانية، وربما الأغنام والبقر والجمال والقطط، باستثناء الكلاب والحمير بالطبع؛ لأنها تابعة لهم منذ الأزل.

صوريًّا، كذلك، سنقبل ملكيتهم أوطاننا ونسجلها في دوائر الطابو بأسمائهم، شريطة أن يقبلوا التنازل عن صلاحياتهم السياسية كما تفعل ملكة بريطانيا التي تستهويهم بأبّهتها وعظمتها وتاجها المزركش، بدليل أنهم لا يتركون مناسبةً وطنيةً لها إلا ويكونون في مقدمة الحاضرين؛ على قاعدة أن الملوك يهنئون الملوك، لكن شتّان ما بين ملوك وملوك.

شتّان بين زعيمٍ يصرّ على التشبّث وجمع السلطة بأركانها وفروعها ودقائقها بين يديه، وملكة يرى فيها شعبها أيقونةً تاريخيةً ينبغي الإبقاء على رمزيّتها، وإن غدت محدودة الصلاحيات، فالعرش لا يحكُم؛ لكنه ضروري للحفاظ على عراقة الدولة، والشاعر الذي يمدح ضروريّ أيضًا، وإن كانت قصيدته لا تتجاوز حدود القصر، ولا تقدّس ملكًا ولا تغيّر شيئا من سلطاته المدوّنة في الدستور الذي ينحني أمامه الجميع.

هو محض اقتراح لملوكنا المبجّلين من شاعر مدّاح، قبل أن يحين أوان الهجاء.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.