شذرات فكرية في ذكرى سقوط الاتحاد السوفييتي

شذرات فكرية في ذكرى سقوط الاتحاد السوفييتي

31 ديسمبر 2021
+ الخط -

شكّل تفكّك الاتحاد السوفييتي، المكون من 15 جمهورية، في 25 ديسمبر/ كانون الأول عام 1991، نهاية وبداية لمرحلة تاريخية مهمة في تاريخ العالم المعاصر. ولم تقتصر تداعيات هذا التحول الكبير على الصعيد الاستراتيجي بأبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية فحسب، بل امتدّ ليشمل عالم الفكر أيضا، مع انفجار ثوراتٍ في بولندا والمجر، تطالب بالديمقراطية، وبدء عملية توحيد ألمانيا عام 1990.

في هذه الأجواء، جاء كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" عام 1992 للمفكر الأميركي من أصول يابانية، فرنسيس فوكوياما، ليجسّد على المستوى النظري عملية التحوّل الكبرى هذه، وهو الكتاب الذي جاء استكمالا لمقال له حمل معنى اسم الكتاب، نشر عام 1989. اعتبر فوكوياما أنه مع سقوط الاتحاد السوفييتي، سقطت الأيديولوجيا الشيوعية إلى غير رجعة، وانتصرت الأيديولوجيا الغربية القائمة على الديمقراطية والليبرالية والعقلانية وسيادة القانون. وبهذا المعنى، شكّل سقوط الشيوعية نهاية للتاريخ الفكري، طالما اكتملت مسيرة هذا التاريخ بهيمنة الأيديولوجيا الديمقراطية ـ الليبرالية وحدها على العالم، فالشيء الذي يبلغ غايته ينتهي. انتهى عصر الصراعات الكبرى، ولن تعود هناك حروبٌ إمبريالية، فنهاية التاريخ تعني فتح الباب أمام حكم السلام، ذلك أن كل حرب إمبراطورية هي حرب أهلية. وبذلك لا تعني نهاية التاريخ سوى نهاية الأزمة المتفاقمة في قلب الحداثة، وفقا لتعبيرات مايكل هاردت وأنطونيو نيغري.

تقوم فكرة "صدام الحضارات" عند هنتنغتون على أن الثقافة التي لها دور رئيس في تشكيل السلوك السياسي ستقود، بالضرورة، إلى صدام بين السلوكيات السياسية في العالم

بعد عام من كتاب "نهاية التاريخ"، نشر صموئيل هنتنغتون مقالة في مجلة "فورين آفيرز"، حملت اسم "صدام الحضارات"، وهو الاسم الذي سيكون عنوانا لكتابه عام 1996. رفض هنتنغتون مقولة "نهاية التاريخ" لتلميذه فوكوياما، فالتاريخ لم ينته بانتصار الديمقراطية ـ الليبرالية، لأن هذه الأيديولوجيا مقبلةٌ على صدام آخر مع الحضارتين، الإسلامية الكونفوشيوسية. وتقوم فكرة "صدام الحضارات" عند هنتنغتون على مقاربة بسيطة، أن الثقافة التي لها دور رئيس في تشكيل السلوك السياسي ستقود، بالضرورة، إلى صدام بين السلوكيات السياسية في العالم بسبب اختلاف الثقافات. وطوّر هنتنغتون الفكرة الأساسية هذه عام 2004 في كتابه "من نحن"، حيث ركّز على الهوية الأميركية، معتبرا أن نجاح الولايات المتحدة كدولة يرجع، بشكل أساس، إلى حقيقة أن الأنغلو ـ بروتستانت هم من استوطنوها، وليسوا الكاثوليك الفرنسيين أو الإسبانيين أو البرتغاليين.

كان جوهر الثقافة الأميركية هو ثقافة مستوطني القرنين الـ17 والـ18، والتي تتضمّن الدين المسيحي والقيم والأخلاق البروتستانتية واللغة الإنكليزية والقانون البريطاني والعدالة والتقاليد. ومن هذه الثقافة، طور المستوطنون في القرنين ال18 وال19 الميثاق الأميركي بمبادئه عن الحرية والمساواة الفردية والحكومة التمثيلية والملكية الخاصة.

رفض فوكوياما أطروحة أستاذه. وعلى الرغم من موافقته على أهمية الثقافة في تشكيل السلوك السياسي، إلا أن الثقافة لا يمكن اعتبارها محدّدا رئيسا للسلوك. ولذلك يؤكّد فوكوياما على مفهوم الهوية بدلا من مفهوم الثقافة، فمن خلال مفهوم الهوية يمكن فهم السياسات المعاصرة، لأن مفهوم الهوية يقوم على الاعتراف بالخصائص الفريدة للإنسان وخصوصيتها. وفي سياق هذا الجدل، بدأ فوكوياما بتغيير وجهة نظره الأساسية التي طرحها في "نهاية التاريخ"، ففي كتابه "الهوية: الحاجة للكرامة وسياسات الاستياء"، انتهى إلى التشكيك بإمكانية سيادة الأيديولوجيا الديمقراطية ـ الليرالية في العالم، إذ إن صعود سياسات الهوية أحد أكبر التحدّيات التي تواجه هذه الأيديولوجيا في النظام الدولي الحالي.

ساهمت رغبة الجماعات المهمّشة في نيل الاعتراف في صعود سياسات الهوية

وقد ساهمت رغبة الجماعات المهمّشة داخل مجتمعاتها في نيل الاعتراف في صعود سياسات الهوية التي أصبحت تشكل تهديدا لبنية الدولة وللتماسك الاجتماعي الذي طالما كان معيارا للديمقراطية ـ الليبرالية. وفي كتابه الذي نشر الجزء الأول منه عام 2011، وحمل اسم "أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية"، ونشر الجزء الثاني منه عام 2014 بعنوان "النظام السياسي والانحطاط السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الثقافة"، يجادل فوكوياما على خطى هنتنغتون بأن للتطور السياسي مساربه الخاصة التي ليست بالضرورة أن تكون متطابقة مع التطورين، الاقتصادي والاجتماعي.

لم يهدف فوكوياما من كتابه هذا كتابة تاريخ الفكر السياسي، فهذه مهمّة مؤرّخ الأفكار، وإنما كان يهدف إلى مقاربة التطور السياسي والفكر السياسي الحديث وقراءته بالبحث عن الديناميات الداخلية التي أعطت هذا التطور سيرورته التي انتهت على ما هي عليه في العالم الغربي المتطوّر، من أجل صوغ نظرية تشرح التطور والانحطاط السياسي، قال إنها لا تصل إلى مستوى الحقيقة، بقدر ما هي محاولةٌ وسطيةٌ لا تأخذ بالماكرو سوسيولوجي وحده، ولا بالميكرو سوسيولوجي وحده. وإذا كان فوكوياما قد اعترف أن كتابه "نهاية التاريخ" جاء توبيخا للماركسيين آنذاك الذي كانوا يعتقدون أن الاشتراكية هي النمط النهائي والأخير لتطور البشرية السياسي، وإذا كان قد دعا إلى عودة بعض السياسات الاشتراكية في الغرب في ظل تداعيات النيوليبرالية، فإنه ظل على موقفه الأساس الذي يقوم على أن النظام الديمقراطي ـ الليبرالي ما يزال أفضل الأنظمة السياسية في العالم، والأقرب إلى طبيعة الإنسان، لكن هذه المرّة من دون حمولات أيديولوجية.