شبحُ سانكارا يطارد فرنسا

شبحُ سانكارا يطارد فرنسا

11 نوفمبر 2021

تمثال لرئيس بوركينا فاسو الأسبق توماس سانكارا في واغادوغو (2/3/ 2019/فرانس برس)

+ الخط -

تتواصل في عاصمة بوركينا فاسو، واغادوغو، أطوار محاكمة المتهمين باغتيال الرئيس الأسبق توماس سانكارا (1949- 1987) مع مجموعة من مرافقيه قبل 34 عاما، في سياق الانقلاب الذي قاد الرئيسَ السابق، بليز كوْمباوري، إلى السلطة. ولا تزال التساؤلات تُثار بشأن ضلوع فرنسا في اغتيال أحد أكثر القادة الأفارقة شراسة في مواجهة الهيمنة الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا. وتستندُ تقاريرُ، في ترجيح مسؤولية فرنسا في هذا الصدد، على ما تردّد بشأن وجود عملاء للمخابرات الفرنسية في واغادوغو يوم اغتيال سانكارا (15 أكتوبر/تشرين الأول 1987)، فضلا عن الدعم الكبير الذي حظي به خلفه، كومباوري، من فرنسا، قبل أن تُطيح حكمَه ثورة شعبية في 2014، اضطر معها إلى الفرار إلى ساحل العاج تحت حماية إحدى الوحدات العسكرية الفرنسية.

وتتجاوز أهمية هذه المحاكمة ودلالتها كشفَ خيوط جريمة اغتيال سانكارا نحو محاكمة السياسة الفرنسية في غرب أفريقيا، التي شكّلت مناهضتُها العنوانَ الرئيسَ في التوجه التحرّري لسانكارا. فمنذ توليه السلطة (1983) لم يتوقف عن التصدّي لمختلف أشكال الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، فطالب بوقف استعمال الفرنك الفرنسي، ومناهضة تغوُّل الشركات الفرنسية في نهب ثروات الدول الأفريقية، وكفِّ باريس عن مساندة الأنظمة الفاسدة الموالية لها، وشطبِ الديون الأفريقية. وكان تصويتُ بوركينا فاسو، في الأمم المتحدة، على حق كاليدونيا الجديدة في الاستقلال عن فرنسا، بداية القطيعة بين باريس والزعيم الشاب.

أثارت مواقف سانكارا حفيظة فرنسا التي رأت فيها تهديدا صريحا لمصالحها الاقتصادية المتشعبة، التي تتغذّى على زواج المتعة بين الاستبداد والفساد اللذيْن كانا ينخران معظم أنظمة غرب أفريقيا، وهيمنةِ فرنسا السياسية والاقتصادية والثقافية على مستعمراتها السابقة، ضمن سياسةٍ ممنهجةٍ لاستنزاف مواردها وتعطيل عجلة التنمية فيها. هذا الوضع الذي كانت تختزله منظومة Françeafrique، ولا تزال، لم يكن يسمح لأي دولةٍ أفريقيةٍ بانتهاج سياسة مستقلة عن هذه الهيمنة. وأثار تبنِّي سانكارا خطابا تحرّريا مناهضا للإمبريالية والاستعمار، مخاوف فرنسا من تشكُّل ما يشبه العدوى التي تمتد إلى الدول المجاورة لبوركينا فاسو، بما كان يعنيه ذلك من تقويض معادلة الاستقرار في المنطقة، والتي تصبّ في مصلحة فرنسا وحلفائها.

وعلى الرغم من أن مصادر فرنسية تنفي أي ضلوع لباريس في مقتل الزعيم البوركينابي، إلا أن جزءا من الأرشيف الفرنسي الذي أُفرج عنه خلال السنوات الثلاث المنصرمة، ويخصّ أساسا وثائقَ السفارة الفرنسية في واغادوغو، يرجّح فرضية تورّط فرنسا، بدرجة أو بأخرى، سيما في ما له صلةٌ بتزويد كومباوري بمعلوماتٍ تفيد عزمَ سانكارا التخلص منه بمساعدة معمر القذافي، ما دفعه إلى اتخاذ خطوةٍ استباقيةٍ والتخلص من سانكارا ورفاقه، مسنودا بتأييد الجيش والرئيس العاجي، آنذاك، هوفيت بوانيي، والوزير الأول الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، الذي لم يغفر، حسب بعضهم، تضييق سانكارا الخناق على مصادر التمويل الذي كان يتوصل به حزب التجمع من أجل الجمهورية من جهات في بوركينا فاسو. ولعل ما يعزّز هذه الفرضية الدعم السياسي الذي حظي به كومباوري من فرنسا طيلة فترة حكمه (2014 - 1987).

لا يزال جزء من الأرشيف الفرنسي المرتبط بقضية اغتيال توماس سانكارا محفوظا تحت بند ''أسرار الدفاع الوطني'' لاعتبارات سياسية وأمنية. وما أُماط عنه اللثامُ، في هذا الصدد، الرئيس إيمانويل ماكرون لا يساعد على كشف الخيوط الكاملة لهذه الجريمة، بقدر ما يرسّخ صورة فرنسا في المخيال الشعبي الأفريقي دولةً استعماريةً، تنظر إلى القارّة باعتبارها حديقة خلفية لها، ولا تتوقف عن نهبِ ثرواتها ومقدّراتها المختلفة، وتعطيلِ إقلاعها الاقتصادي، وتوفير التغطية السياسية والأمنية والعسكرية لحكامها المستبدّين، بما يترك شعوبها غارقة في الفقر والاضطهاد والتخلف.