شؤون وشجون فوق شخصية

شؤون وشجون فوق شخصية

10 اغسطس 2021

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

ألحّت مادّة هذه الزاوية على الذهن طوال أسابيع خلت، واكتست فكرتها لحماً وشحماً مع مرور الوقت، وصارت ذات قوام صالح للنشر، إلا أن متغيرات ومواضيع أكثر إلحاحاً من مسألةٍ فوق شخصية كانت تملي نفسها على العقل والقلب، تعيد ترتيب الأولويات، تعدّل جدول الاهتمامات، وتقدّم الأهم على المهم، الأمر الذي تعذّر معه إخراج هذه المادة إلى النور يوم نضجت فكرتها، وجعلها تنتظر في الدور الطويل إلى أن يحين وقتٌ مناسبٌ للنشر.
هي مجرّد عملية بوح واستذكار وقول شيءٍ ما عن الصداقة، أو قل العملة النادرة في هذا الزمان الصعب على الموغلين في العمر والهمّ والصبر، المسكونين بحنينٍ لا شفاء منه، ولا بديل عنه، إلى ماضٍ مضى، إلى عهد البساطة والإيثار والصداقة المشتقّة من الصدق، وحدث ولا حرج عن الود والثقة والمروءة، وكل ما يتعذّر تذكّره من قيم ذلك الزمن الجميل ومثله.
في حواراتٍ لا منهجية، وحديثٍ مديد ذي شجون، مع صديقٍ عتيق ألتقيه، بعد أن فرّقت بيننا الدروب على نحو منتظم منذ نحو عقدين، ولمرّتين في الأسبوع، نتحدّث ملياً في السياسة والاقتصاد والأدب، يكون فيه الصديق متسائلاً على الأغلب، فيما أكون أنا المجيب. يطرح عليّ الرجل، الذي أعرفه منذ كنا معاً في الصفوف الابتدائية، سيلاً من الأسئلة المتعلقة بالتجربة الشخصية، وبالخبرة المكتسبة، سيما في مجال الكتابة والصحافة، تحدوه رغبة في المعرفة والفهم والاستزادة، لما يبدو لقادمٍ من عالم المال والأعمال سراً من أسرار مهنة المتاعب الجميلة.
من بين تلك الأسئلة والتساؤلات، أنتقي أربعة منها تتصل بالكتابة الصحافية، لما في أجوبتها من مشتركاتٍ تتجاوز حيّز الحوار بين اثنين وجدا، كلُّ لدى الآخر، المزاج المعتدل، نقاء السريرة وطيّب القول، أحدهما كانت حياته قصة نجاح باهرة، بلغت ذروتها بتقلّده منصب مدير عام لبنك تجاري كبير، بينما كانت سيرة الثاني سلسلة طويلة من النجاحات القليلة والإخفاقات الكثيرة، التي توارت خلف أستار مسار نضالي لا بأس به، وحياة يومية حافلة بالمثابرة والاستقامة والسمعة الحسنة.
كان سؤال الصديق، الذي يقلّني بسيارته الفارهة إلى المقهى، أشرب وإياه القهوة المرّة، ويعيدني إلى المنزل بعد كل دعوة: كيف تختار موضوعك الأسبوعي، وسط هذا الكم المتزاحم من رؤوس الموضوعات الطارئة كل يوم، وأحياناً كل ساعة؟ فأجيبه أنّ واحداً من خيولها غير المسرجة يصل إلى نهاية مضمار السباق أولاً، ويفوز بجدارة على منافسيه، أو قل إذا شئت إنّها جمرةٌ تتوهج بين جانبيك، تتّقد بسرعة وتشعل حريقاً مؤقتاً في بدنك، إلى أن تنجلي هذه الدينامية الغامضة عن مقالٍ فيه فكرة مضافة. وفي ما يخص العنوان، أجبتُ أنّ الاختيار المتقن له يزن نصف المقال في بعض الأحيان، شرط ألا يكون تلخيصاً مجحفاً للفكرة، وألا يأتي كاشفاً لها منذ البداية، أو مُصادِراً فضول القارئ العادي في متابعتها حتى نهاية السطر الأخير من المرافعة عنها، وبالتالي فإن حُسن اختيار العنوان الملائم لجوهر المادة دليلٌ، من بين دلائل كثيرة، على تميّز كاتب صحافي عن غيره، سيما من أولئك الكتّاب الذين يقولون كل شيء في جملة واحدة، ويريحون متابعيهم من عناء القراءة.
سألني الرجل الذي يعرفني عن كثب، ويشبهني من حيث التناول الواقعي للأمور والميل إلى الوسطية: هل تقبل ذات يوم أن تكتب بلا أجر؟ فقلتُ وأنا أمسك نفسي عن لومه بشدة: لا، يا صديقي، فالكتابة بالنسبة لي حرفتي الوحيدة، وهي في حد ذاتها عمل شاقّ أستحقّ عليه عائداً مُرضياً، كأي صاحب مهنة، على صخرتها بنيت معمار حياتي، ووجدت في فضاءاتها ذاتي، وعلى دروبها المتعبة قطعت جلّ عمري، فكيف لي، والحالة هذه الحالة، أن أتنازل عن مصدر دخلي، لقاء شهرةٍ لا تُسمن ولا تُغني؟
كان السؤال الأخير، من باقة الأسئلة التي وددت عرضها على لسان صديقي الأثير، الدكتور خالد الغبيش، هل تُفكر يوماً ما بالاستقالة من غواية الكتابة، والخلود بعد كل هذا الشقاء، إلى قسط أخير من الراحة؟ هنا كان جوابي أكثر يقيناً مما سبق من إجابات معللة، حين جزمت أمامه أنّ الكتابة بالنسبة لصاحبها هي الحياة بعينها، منها يستمد وجوده، وينهل من معينها العذب سرّ بقائه، ومبرّر استمرار حضوره فاعلاً في محيطه.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي