سيّد قطب في مكتبة النوري

18 يناير 2025
+ الخط -

كان مقترحاً حسناً، تداولناه في دمشق، مؤيّد وعبّاد وحمزة وأنا، لمّا انتهينا من جلسةٍ مع وزير الإعلام السوري محمد العمر، أن نذهب إلى مكتبة النوري، فأخَذَنا سائقُنا إليها. تم جالت عيونُنا، في الطريق، بأحياء وشوارع وميادين مُتعَبة، مزدحمةٍ بالناس وبالحافلات وسيارات الأجرة المُدهشة في قِدِمها وتواضعها، والحديث عن هذا، وغيره، يطول... دلفْنا إلى المكتبة الأشهر في سورية لبيع الكتب الصادرة محليّاً وفي الخارج (من لبنان ومصر غالباً). ومن بين كتبٍ وضعَها أصحابْ المكتبة في صدارة المعروض أمام الداخلين كتاب سيّد قطب "في ظلال القرآن"، في طبعته مجلّداً من دار الشروق القاهرية، والذي نُشر أول مرّة في 1954. بدا الأمر لنا مقصوداً، فكان استيضاحُنا ممن رحّب بنا ما إذا كان هذا جديداً من المكتبة أن تبيع هذا الكتاب، الممنوع عقوداً في البلاد، فصاحبُه، كما هو معلوم، من مؤسّسي جماعة الإخوان المسلمين التي كان حافظ الأسد يسمّيها "الإخوان المجرمين". ويُحكَم بقانونٍ (لم يُلغَ بعد!) على كل من يُشتَبه بانتسابِه إليها بالإعدام، وأرشيف علاقة الصدام الدموي بينها وبين نظام الأسديْن طويل. ولعل سيّد قطب ما زال المفكّر الأبرز لها، وهو، إلى صفته المنظّر الأهم لأدبيّات الجماعة، أديبٌ وشاعرٌ (وناقدٌ أدبيٌّ له مكانتُه)، أعدمه نظام جمال عبد الناصر في 1966. نلقاهُ في دمشق، كأنّه يستقبلنا في مكتبة النوري، فنسأل سؤالَنا ذاك عمّ جعله هنا، فيجيبُنا صاحب المكتبة، السبعيني، بأنه أخرَجَ الكتاب، بعد سقوط نظام الأسد، من "القبو"، وبدأ عرضَه وبيعَه في العلن. وفي هذه الإفادة ما فيها من ظلالٍ كثيرة، ليس فقط في ما يتعلق بـ"قبوٍ" في الشام لم يتحرّر منه سيّد قطب إلا بتحرّر السوريين من حكم آل الأسد، بل أيضاً في أنه كتابٌ وحده احتيج أن يختبئَ في القبو. وهذا ترجيحٌ في أفهام كاتب هذه الكلمات، عزّزته جولةُ عيونِنا في العناوين الكثيرة جداً في المكتبة، أنها متنوّعة في الشعر والرواية والقصة والشريعة والتاريخ والفنون (اقتنيتُ كتاباً عن أفلام سينما)، وفي التربية والاجتماع والفلسفة، فضلاً عن كتبٍ تعليميةٍ وأخرى مقرّرةٍ في الجامعات في عدّة اختصاصاتِ، وعن كتبٍ في الطبخ والتسلية، لكنك لا تصادف كتباً في شؤون فكرية وسياسية ذات منحىً تحليليٍّ في الديمقراطية والاستبداد وبناء الدولة الحديثة، وكتباً في شؤون سورية وقضاياها، من غير التصانيف التقليدية عن تاريخ البلد ومطبخها وآثارها ومدنها.

كانت قصيرةً، ومتعجّلةً، جولةُ عيوننا في المكتبة التي تأخُذ ركنَها هذا في شارع الحجاز منذ 1969، وقد أنشأها مؤسّسها الراحل محمد حسن النوري، بعد مكتبتيْن في مطرحيْن آخرين في دمشق، أولاهما في ساحة المرجة في 1932. غير أن قلّة الوقت التي كنّا عليها لم تخصِم شيئاً من انطباعٍ عن نقصٍ ظاهرٍ في الإصدارات العربية الجديدة، لكنك ربما ستحوز "متعةً" لو لديك فائضٌ من الوقت لتتصفّح طبعاتٍ أولى أو قديمةٍ من مجموعاتٍ شعريةٍ وقصصيةٍ وأعمالٍ روائيةٍ ونقديةٍ. ومفاد هذا التفصيل بأن مكتبة النوري، وهي وكيل عدّة دور نشرِ عربيةٍ في سورية، تأثّرت كثيراً بالوضع الاقتصادي الصعب في البلاد، سيّما منذ 14 عاماً، مع تراجعٍ حادٍّ في حركة بيع الكتب ومع انحسار القراءة عموماً. ولكن، إلى هذا وذاك، وغيرهما من مفاعيل تتّصل بالحال العام في بلدٍ يعاني كثيراً من بؤسٍ شديدٍ في غير شأن، كان أصحابُ المكتبة يخبّئون "في ظلال القرآن" من عيون عسَس السلطة وبوليسها ومخابراتها، وهو كتابُ تفسيرٍ للقرآن لم يحظره حكم الأسديْن لمضامينِه، وإنما لاسم مؤلفه.

لا بأس، في معرض حديثٍ مرتجلٍ هنا عن تحرّر سيّد قطب من "قبوٍ" كان فيه في دمشق، من أن يرى واحدُنا هذه الواقعة واحدةً من مظاهر هزيمة الحداثة في المشهد السياسي الراهن (ماذا عن الاجتماعي العام؟) في سورية، وقد تسلّمت هيئةٌ إسلاميةٌ متشدّدةٌ السلطة في البلد، مضادّةٌ حكماً وواقعاً للحداثة، في منظومة أولويات هذه الهيئة وخيارات التوجيه والتعليم لديها. كأن مكتبة النوري تستشعر هذا المزاج، وتُماشيه، وهي التي تحضُرُ فيها روايات إحسان عبد القدوس (مثلا)، عندما تجعل سيّد قطب في مقدّمة مستقبلينا فيها، عبّاد ومؤيّد وحمزة وأنا، في نهارٍ دمشقيٍّ كانت الشمسُ فيه حانيةً، وكنّا نتظلّلُ بدفءٍ غزيرٍ في فرح السوريين بالخلاص من الأسد.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.