سيّدُ الخداع السوري ولعبةُ خلط الأوراق

سيّدُ الخداع السوري ولعبةُ خلط الأوراق

15 مارس 2022
+ الخط -

تمكّنت المملكة المتحدة، في القرن التاسع عشر، من بناء إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، لأنّها برعت في مجال الحديد والبخار والتلغراف بشكلٍ أسرع من منافسيها. في القرن العشرين، تسيّدت الولاياتُ المتحدة العالمَ لتفوّقها في استخدام الفولاذ والمواد الكيميائية والإلكترونيات والفضاء وتكنولوجيا المعلومات. وحاضراً، تأمل الصين في أن تهيمن على القطاعات الاستراتيجية الحديثة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والاتصالات السلكية واللاسلكية. على التوازي، نجح طبيبٌ متدرّب في الغرب كخليفةٍ لديكتاتور شرق أوسطي في جعل نظامه الحاكم حديث العالم بأسره، وأعظم إنجازاته أنْ زجّ بلاده في حربٍ مدمرةٍ قتلت وشرّدت الملايين. يدلّل على ذلك أنه في سلسلة السير التي أعدّها معهد مونتين لشخصياتٍ في الشرق الأوسط، تنطلق سيرة الأسد الابن من أنه أقدم الديكتاتوريين في هذه السلسلة وأكثرهم تلوثاً بالدماء. وفي الحقيقة، ظل تاريخ سورية مذ تسلُّمِ الأسدين الحكم تاريخ منافسة شرسة بين أنظمة متصادمة، وليس تاريخ تعاون متناغم. إذ شكّل الخوفُ من العدو، وليس الثقة بالأصدقاء، حجرَ الأساس لتركيبة النظام السوري الذي طوّر مجموعة من المعايير، من خلال اعتبار نفسه خصماً للعالم بأسره، منطلقاً، عبثاً، من "نظرية سالوست"، على اسم المؤرّخ السياسي الروماني الذي جادل بأنّ الخوفَ من قرطاج أبقى الجمهورية الرومانية متماسكة. وثمّة من يؤكّد أنّه، وبينما يتمتع حلفاء الأسد بنفوذٍ كبير عليه، ليس مجرّد دمية كما يصورّه الذين يكرهونه. إنّه سيّد الخداع بامتياز. دعونا نتذكّر: في بداية عهده، فتح الأسد نافذةً صغيرة لحرية التعبير النسبية، ثم أغلقها بعد بضعة أشهر فقط، كما أطلق إصلاحاتٍ اقتصادية للمساعدة في تحرير الاقتصاد، لكن بطريقة انتقائية من أجل إفادة أعمال عائلته التي فضلت الثراء الفاحش على حساب لقمةِ السوريين، على غرار مسلسل الدراما والجريمة الأميركي "آل سوبرانو" من زعماء المافيا في أميركا، مع فارق عدد الضحايا الهائل.

لا يخفى على أحدٍ أنّ روسيا تحتل مراكز متراجعة للغاية على المؤشّرات الدولية كافة، فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان

أثبت بشار الأسد خطأ الشائعات التي تفيد بأنه مجرّد محاكاة للديكتاتور، وأظهر قيمته الكاملة خلال الحرب العراقية في أعقاب الغزو الأميركي عام 2003، ففي وقتٍ تعاونت فيه المخابرات السورية بشكل دقيق مع إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، ظلّ نظام الأسد ينظّم نقل جميع أنواع المتطرّفين الإسلاميين من الخارج إلى العراق. ولم تسلم حتّى بلاده منه، فخلال السنة الأولى من الثورة السورية، استجاب الأسد لاثنين من المطالب الرئيسة للمحتجين: رفع قوانين الطوارئ، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، أن "حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع". لكن خلال السنوات التالية زادت الاعتقالات التعسفية، والقتل خارج نطاق القضاء للمعارضين باطراد، فيما زادت حصة المقاعد التي يشغلها حزب البعث في مجلس الشعب. أضف أنه في عام 2013، بدأ النظام السوري، وفقاً لجميع المصادر الموثوقة، وبعد زعمه تسليمه مخزونه الكامل من غاز الأعصاب، تحت رعاية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، بدأ بشنّ هجماتٍ كيميائية عدّة مرات في تجاوزٍ واضح "للخط الأحمر" الذي وضعته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما .. إلخ.
على صعيد موازٍ، لا يخفى على أحدٍ أنّ روسيا تحتل مراكز متراجعة للغاية على المؤشرات الدولية كافة، فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان، وهو ما يبدو متناغماً مع دعم موسكو الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط. وعليه، لا غرابة أنْ يعيد تحذيرُ موسكو من وجود "برنامج أسلحة بيولوجية" في أوكرانيا المشهدَ السوري إلى ذاكرة المناهضين لنظام الأسد الذين كانوا يسيطرون على شمال سورية، بحسب تقريرٍ لصحيفة الغارديان. وحتى في مهدها، فإن للحرب الروسية الأوكرانية أوجه شبه عديدة مع الصراع السوري، مثل الوحشية والدمار العشوائي والهروب الجماعي للمدنيين، إضافة إلى استخدام الذرائع والاتهامات الباطلة. وليس غريباً، أيضاً، أن يأتي تصريح رأس النظام السوري بأنّ ما يحصل هو "تصحيحٌ للتاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكّكِ الاتحاد السوفييتي".

برزت، أخيراً، مؤشّراتٌ جدية إلى استغلال إيران الانشغال الروسي في أوكرانيا

على الرغم من هذا، وبالنظر إلى سجلّه الأسود في الخداع والتحايل، مدفوعاً بإيمانه الضمني بحتميةِ سقوط روسيا في أوحال أوكرانيا، لم يمانع الأسد عودة الملف السوري إلى أيدي الإيرانيين، ليكونوا اللاعب رقم واحد فيه، خصوصا أنّ فاتورة الحرب السورية، وعند الحديث بلغة الأرقام، تُظهر أنّ إيران هي الجهة التي دفعت الجزء الأكبر منها، وليست روسيا. ضمن هذا السياق، ثمّة ما يشبه الإجماع على أنّ سورية ستكون من أوائل البلدان التي ستنعكس عليها تداعيات الحرب "الروسية –الأوكرانية". وعلى الرغم من عدم وضوح طبيعة هذه الانعكاسات المحتملة، وبقائها حتى اللحظة في خانة التكهنات، فقد برزت، أخيراً، مؤشّراتٌ جدية إلى استغلال إيران الانشغال الروسي في أوكرانيا، وما يمكن أن يُحدثه ذلك من فراغٍ في سورية، من أجل مواصلة استراتيجيتها القائمة على التوسّع كلما مكّنتها الظروف الدولية والإقليمية من إيجاد ثغرةٍ للتسلّل عبرها. سيّما أنه، وفي اليوم الثاني من بدء الهجوم الروسي، اتصل الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بنظيره الروسي، بوتين، مؤكّداً أنّ بلاده "تتفهم صدّ حكومة روسيا الفيدرالية محاولة حصارها بضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، إلّا أنّ الجمهورية الإسلامية تنصح بتوخّي الحذر واعتماد الحلول الدبلوماسية". المؤكّد، أيضاً، أنّ تأخر روسيا في حسم عدوانها سيضع بوتين في وضعٍ أكثر صعوبة، لذا لن يكون هذا هو الوقت لتصفية الحسابات لمواقف إيران الرمادية.

أمل السوريين بضعف روسيا وانسحابها من الملف السوري قد يعكّره التوسع الإيراني بكلّ أشكال النفوذ

وعليه، ليس مفاجئاً أن يشهدَ خطُّ "دمشق – طهران" حراكاً لافتاً على المستويين، الأمني والسياسي. وفي تحرّكٍ نادر، وانطلاقاً من سياسة "الصيد في المياه العكرة"، زار رئيس مكتب الأمن الوطني في سورية، علي مملوك، طهران، حيث التقى الرئيس الإيراني والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، للتباحث في التداعيات الأمنية والعسكرية المحتملة للحرب الأوكرانية، ومدى انعكاسها على المشهد السوري. كما جاءت زيارة كبير مساعدِي وزير الخارجية الإيراني، علي أكبر خاجي، لسورية ولقاؤه بشار الأسد، للتباحث في سبل تعزيز التعاون في مختلف المجالات، والتطرّق إلى الملفات الإقليمية والدولية، بما في ذلك التطوّرات في أوكرانيا، والتي قد تؤدّي إلى تراجع اهتمام روسيا بالقضية السورية.
نافل القول إنّ أمل السوريين بضعف روسيا وانسحابها من الملف السوري قد يعكّره التوسع الإيراني بكلّ أشكال النفوذ. وفي وقتٍ تبدو فيه السيناريوهات كثيرة ومتغيرة، يبقى الثابت الوحيد اليوم أنّ بشار الأسد، الذي ما زال يتكلّم بصوتٍ خافتٍ وبابتسامةٍ باردة غالباً، مقتنعٌ بتفوّقه على معاصريه، بينما لا يظهر رحمةً في ممارسته السلطة، حتّى في أكثر جوانبها خبثاً. ولئن كان يتمتّع بقدرةٍ غريبة على إغراء محاوريه، فإنّ مرحلة الإغراء تتبعها دائماً حالة من الاستياء، لأنّ الكلمات الجيدة التي تصدر عنه (أو حتى الالتزامات الدقيقة) لا يتبعها أيّ إجراء جديّ. على هذا، بات الأسد "الرجلَ الزئبقي" الذي لا يستطيع أنْ يستغني أحدٌ عنه. إذ قد يكون من السهل ترتيب الأوراق، لكن في السياسة يجب أن تعرف كيف تخلط الأوراق جيداً.. والديكتاتور السوري وخلف "قناع المثقف"، لا شكّ، أتقن، وبشكلٍ مدهشٍ، لعبةَ خلط الأوراق.