سيد القمني .. التنوير إلى حد ما

سيد القمني... التنوير إلى حد ما

11 فبراير 2022
+ الخط -

ثمّة تعامل حدّي، لا يتوافق موضوعياً مع إرث المفكر المصري سيد القمني، لدى مريديه وكارهيه على حد سواء، بعد وفاته قبل أيام. فالطرف الأول يصر على اعتباره منقلباً على الأديان؛ الإسلام بشكل خاص، رغم أنه بقي يصر على أنه مسلم يريد إصلاح فهم المسلمين لدينهم، بينما يصر الطرف الثاني على اعتباره مسيئاً للدين وخارجاً عنه، لأنه رفض التراث الديني السلفي كما هو مفهوم ورائج لدى المتدينين ورجال الدين وعامة المسلمين.

والحقيقة أن الرجل ينتمي لذلك الجيل من المفكرين الذين انتهجوا درب إعادة قراءة التراث الديني وسرديته التاريخية، والخروج منها باستنتاجاتٍ مغايرةٍ لما استقرّت عليه السردية الإسلامية. وهو نهج ينطوي على التسليم بما جاء في ذلك التراث، والاعتراف بمروياته، مع عدم التسليم بالاستنتاجات السائدة حوله. لكنه لا ينتمي للنهج الجديد الذي ظهر في العقدين الأخيرين، وانتشر مع توسّع استعمال الإنترنت، ومحوره التشكيك بصدقية ما ورد في كتب التراث من سير وأحداث وقصص.

في فيديو على "يوتيوب"، يقابل شاب يعرّف نفسه بأنه لا ديني، سيد القمني، فيصرّ الأخير على أنه مسلم، ويسلّم الشاب بذلك من باب المجاملة، مع ظنه بأن الرجل متمسّك بمقولة قالها في التسعينيات بحثاً عن السلامة من التكفير وما ينبني عليها من تبعاتٍ صعبة، ليس إلا. لكنه يؤكد حقيقة لا غبار عليها، أن القمني ومجايليه، في مقدمتهم فرج فودة ونصر حامد أبو زيد، كان لهم مساهمة أساسية في فتح آفاق التفكير لأجيال كاملة، انتقلت فيما بعد إلى المجاهرة بالتشكيك في مروّيات التراث، اعتماداً على نقدها منطقياً، وإخضاعها لنتائج الاكتشافات الأثرية المادية.

الإسلام بشكله الراهن تأسس في الفترة العباسية التي أعادت صياغة هوية الدولة لتأخذها باتجاه الاستقلال عن المسيحية واليهودية

على سبيل المثال، ونتيجة المنهج النقدي التاريخي في تحليل السردية الإسلامية، يشكّك الباحث المغربي محمد المسيّح، الذي اشتغل على تحليل مخطوطات القرآن وأصدر كتاباً بهذا الخصوص، في أن أحداث التاريخ الإسلامي وقعت في الجزيرة العربية، اعتماداً على أن مكّة لم تكن معروفة في التاريخ القديم ولا وجود لها على الخرائط القديمة. ويذهب ذلك الرأي إلى القول إن الأحداث وقعت في شمال الجزيرة العربية، وأن "قريش" تنتمي لبلاد الشام لا للجزيرة العربية، وأن الفتح العظيم الذي يذكره القرآن الكريم هو فتح بيت المقدس لا فتح مكّة، لأن القدس كانت الهدف الحقيقي للحملات العسكرية العربية التي قامت بالتحالف بين العرب وأحد المذاهب المسيحية (المذهب الناصري وأتباعه النصارى). وتفضي تلك القراءة إلى التشكيك بماهية الصراع على السلطة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وصولاً إلى اعتبار معاوية ملكاً عربياً لم يكن يعرف الإسلام بالطريقة التي نعرفها اليوم، بدليل نقوش وعملات مكتشفة من عصره، كذلك الدولة الأموية التي أقامت قبة الصخرة في القدس وزيّنتها بآياتٍ عن السيد المسيح. وأن الإسلام بشكله الراهن تأسس في الفترة العباسية التي أعادت صياغة هوية الدولة لتأخذها باتجاه الاستقلال عن المسيحية واليهودية.

دع عنك القراءة الآرامية للقرآن التي تفهم النص القرآني، ومن خلفه تاريخ نشأة الإسلام، بطريقة مختلفة عن الفهم السائد، وتعتمد على مخطوطات صنعاء (مخطوطات قرآنية تنتمي لبدايات الإسلام جرى اكتشافها في مسجد صنعاء الكبير سبعينيات القرن العشرين) التي ترى فيها مرجعاً يشرح تطور النص القرآني، خصوصاً بعد تنقيط الحروف العربية وتشكيلها، كالتي يذهب إليها اللبناني الألماني كريستوف لكوسنبرغ (اسمه المستعار)، ومعه مشروع "إنارة" الألماني الذي اشتغل على دراسة المخطوطات التاريخية القرآنية وتلك المعاصرة لظهور الإسلام ليقدم سردية حول "قصة الإسلام" مختلفة عن السائدة. المهم أن هذا المنهج الذي تسرّب إلى عشرات من شباب عرب ناشطين على الإنترنت يرفض مروّيات التاريخ الإسلامي، ويشكّك بحقيقتها، وهو ما يخالف تماماً منهج القمني الذي سلّم بتلك المروّيات لكنه أعاد قراءتها.

أهمية منهج القمني من مزامنته مرحلة المد الإسلامي في العالم العربي

على أن منهج القمني ومجايليه لم يكن جديداً في الثقافة العربية المعاصرة، سوى أن أهميته تصدر من مزامنته مرحلة المد الإسلامي في العالم العربي، وسيادة الفكر السلفي، ثم الحركات السياسية المتشدّدة، ووقوفه في وجهها لصالح تغليب فكرة المواطنة والدولة المدنية والقول بتوافقها مع الإسلام، على غير ما يرمي إليه النهج المتشدّد. كان طه حسين اتبع المنهج نفسه؛ فقراءته "الفتنة الكبرى" بين الصحابة (مقتل عثمان ثم صراع علي ومعاوية) انطلقت من التسليم بالسردية التاريخية للإسلام ثم إعادة قراءتها، كذلك حال كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي يسلّم بوقوع الأحداث التاريخية ليقول من خلالها إن الشعر المنسوب إلى العرب قبل الإسلام (الجاهلية) ليس جاهلياً. كذلك كتاب المفكر التونسي الراحل هشام جعيط "الفتنة"؛ فهو يغوص في كتب التراث لدراسة البنى الاجتماعية والذهنية التي كانت سائدة، وصولاً إلى إعادة قراءة العلاقة بين الدين والسياسة.

غير أن ظهور سرديات جديدة تخالف السردية الإسلامية المعترف بها، معتمدة على غموض المرحلة التاريخية الممتدة من ظهور الإسلام وحتى قيام الدولة العباسية، وندرة المعارف والمصادر والاكتشافات الأثرية المادية حولها، لا يمكن التسليم بها قطعياً هي الأخرى، وهي لا تعني بالضرورة خطأ المنهج الذي اتبعه القمني ومجايلوه وأسلافه من المفكرين العرب الذين نجحوا في تقديم قراءات "معتدلة" للإسلام من قلب التراث الإسلامي نفسه، وفق شروط المرحلة التي عاشوها ومحاذيرها. ما يجب قوله، بمناسبة رحيل القمني، أنه قدّم ما هو ضروري لمسيرة التفكير التنويري (كما يحب دعاته أن يسمّوه)، لكن هذه المسيرة سبقته اليوم بأشواط. كان القمني ومجايلوه تنويريين إلى حد ما، قياساً إلى ما بلغه "التنوير" اليوم.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.