Skip to main content
سياسة مصر الخارجية ودروس المصالحة الخليجية
عمر سمير

عندما أعلن عن الحصار المشروط لقطر في يونيو/ حزيران 2017، استخدم تعبير "الذاهبون مع العفش"، لوصف الموقف المصري شديد التبعية في هذه المقاطعة، على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي للسخرية من هذا الموقف. وبالطبع فإن عرّابي نظام "3 يوليو" أضافوا رتوشهم الخاصة لتبرير هذه المقاطعة غير المؤثرة على قطر على الأقل من جانب مصر، والتي بدا أن موقفها لا يختلف كثيرا عن موقف جزر القمر وموريتانيا اللتين لحقتا بقطار المقاطعة متأخرتين.
وحاول بعض معارضي النظام وبعض الأكاديميين عقلنة هذه المقاطعة المصرية، ومحاولة إظهارها قرارا وطنيا نابعا من مناهضة استهداف قطر والقنوات الفضائية التابعة لها نظام "3 يوليو" وإلصاق كل ما يستهدف هذا النظام باعتباره استهدافا للدولة المصرية، في تماه تام مع السلطة وتبريراتها الواهية. وعمد هؤلاء إلى محاولة شيطنة قطر، بالتوازي مع عملية شيطنة تيارات الإسلام السياسي، وهي العملية التي شملت لاحقا جميع معارضي النظام أنفسهم، والذين اتهمهم إما بالانتماء لجماعات إرهابية، أو مشاركتها في تحقيق أهدافها. وأبسط رد على هؤلاء المبرّرين إذا كانت مزاعم دعم قطر وقنواتها الإرهاب هي ما أدت إلى المقاطعة، فلماذا انتظر النظام في مصر أربع سنوات حتى قيام الإمارات والسعودية بهذه المقاطعة في 2017؟ هل كان يعطي الإرهاب وداعميه فرصة أكبر أم ماذا؟ لماذا انتظر النظام القوي والمهيمن في الداخل كل تلك السنوات ليتخذ هذا الموقف؟ ثم لماذا تراجع عنه بهذه السهولة لمجرّد عدول الرياض عنها بعد ثلاث سنوات ونصف السنة؟

تأسيس السياسة الخارجية المصرية والتحالفات على كراهية تيار سياسي، والمكايدة معه، ومع مؤيديه وأمننتها فقط، عملية فاشلة ومكلفة

وبعيدا عن هذه السجالات، فإن درس المصالحة الخليجية الأكبر أن مصر ينبغي أن تبني سياستها الخارجية بشكل أكثر استقلالية عن دول الخليج تحديدا، وأن تتخلّص من "الڤيتو" الذي تحاول أن تفرضه بعض قيادات تلك الدول عليها، وعلى سياساتها الخارجية وتحالفاتها الدولية. كما أن تأسيس السياسة الخارجية والتحالفات على كراهية تيار سياسي، والمكايدة معه، ومع مؤيديه وأمننتها فقط، عملية فاشلة ومكلفة، وتقود إلى خسائر فادحة للسيادة والأرض والكرامة، ولا تنتهي بسياسة ميكروفون الجزيرة، بل تبقيها في خانة "الذاهبين مع العفش"، وتجرّ نظامها إلى تحالفات وسياسات إقليمية خاطئة. وأن مصر لن تتخلص من التبعية المطلقة للخليج، أو على الأقل تجعلها متوازنة بدون إيجاد بدائل لمعادلات تأثيرها المركزية في مصر، وهي مركب "العمالة المهاجرة وتحويلاتها والاستثمار والمعونات والقروض". والعجيب أن هذا ممكن، فيما هو في ظل النظام الحالي في مصر وسياساته شبه مستحيل، وهناك عشرات الدلائل والأمثلة، بالأرقام والمؤشرات، على أن خسائر مثل هذه التحالفات أكبر بكثير من فوائدها.
الدرس الثاني أن القاطرة الإعلامية، سيما إن كانت رثّة بقدر رثاثة الإعلام المصري الحالي، لا ينبغي أن تقود القاطرة السياسية، وأن توجه السياسات، سيما السياسة الخارجية، لأن هذا ينطوي على كوارث محققة، وحملات إعلامية غير مبرّرة متكرّرة، ويتم التراجع عنها فور بروز ضغوط من مموليها والأجهزة الموجهة لها. وأحيانا يتصارع الممولون والموجهون لتلك القنوات والصحف. وأول من دفع ويدفع ثمن هذه القيادة الإعلامية التحريضية للسياسات هم المصريون في الداخل والخارج، والذين يبقون دائما في حيرةٍ من أمرهم، ويسألون عن السبب الذي يجعل هذه القنوات تشنّ حملات ممنهجة ضد بعض دول الخليج ثم تتراجع عنها، بعد كل ما سبّبته من كراهية ومشاحنات واضطراب في العلاقات السياسية. وقد عوين هذا يتكرر، ليس فقط بشأن قطر، بل في موجاتٍ إعلاميةٍ موجهة ضد الكويت في أزمة العمالة المصرية العالقة، على الرغم من أن التقصير الأساسي كان من الحكومة المصرية التي لم تكن لديها أية خطط لإجلاء من يرغبون في العودة إلى بلدهم. وقد حدث هذا أيضا مع السعودية والكويت وبعض الدول التي وعدت بدعم بعشرات المليارات لنظام 3 يوليو في مؤتمر دعم الاقتصاد المصري في مارس/ آذار 2015، ثم بعد فتور العلاقات في 2016، وعدم تحقق كثير من الوعود بعشرات المليارات بدأت حملات التحريض. لا يراعي هذا الإعلام وموجّهوه حساسية العلاقات المصرية الخليجية، المتمثلة في تركز العمالة المصرية في الخارج في هذه المنطقة شديدة التقلبات، ولا أن أغلب الاستثمارات الأجنبية القادمة إلى مصر، وكذلك القروض في العقد الأخير تأتي من هذه الدول.

على النظام في مصر أن يتصالح مع المصريين والنخب السياسية، وأن يقتنع بضرورة التغيير والإصلاح

الدرس الثالث أن على النظام في مصر أن يتصالح مع المصريين والنخب السياسية، وأن يقتنع بضرورة التغيير والإصلاح، وأن يفتح المجال العام ولو قليلا، قبل أن يتطلب الأمر وساطاتٍ إقليمية ودولية، وقبل أن يضطر للدخول في مثل هذه المواءمات، وأن يعيد النظر في سياساته للتعامل مع جائحة كورونا، ومع بقايا أدوار الدولة في قطاعات الصحة والتعليم والمواصلات لصالح توسيع كل ما هو عام، وقبل أن تبتزّه بها الإدارة الأميركية الجديدة والإدارات الأوروبية، وألا يعول كثيرا على احتمالية تسيد الصين وروسيا للعالم بعد الجائحة.
تحتاج سياسة مصر الخارجية مراجعة شاملة، تحسب تكلفة (وعوائد) الاصطفافات السابقة والفرص البديلة لهذه التحالفات والاصطفافات، ومدى تضييقها أو توسيعها لنفوذ مصر الإقليمي والدولي. وأن تقوم على رؤى استراتيجية، وليس تكتيكية مبتسرة، ولا تستجيب إلا لتحدّيات أمنية حقيقية، وغير مبالغ في تقديرها فتفرط في الأرض والعرض والثروات في أحايين كثيرة. وألا تنطلق من رؤية سلبية لوضع داخلي مأزوم، يُراد له أن يستمر. وهذه المراجعة، وأمثالها، أمر تقوم به حتى أكثر النظم استقرارا من دون حرج.
كما تحتاج المعارضات المصرية، في ظل التغيرات الحالية في النظام الدولي والترتيبات الإقليمية الجديدة، لإعادة النظر في منهج الإقصاء والكراهية السياسية المتبادلة الذي اتبعته، والذي أضاع قرابة ثمانية أعوام من أعمار المصريين في استقطاب حاد، من دون قضية مركزية أو إنجاز في قضايا فرعية حتى، وفشلت في توحيد صفوفها حول قضايا كان من الممكن إيجاد إجماع بشأنها، مثل قضايا المعتقلين السياسيين أو صوغ مشتركاتٍ حول إصلاح جذري مطلوب للنظام الصحي، في ظل جائحةٍ تكاد تعصف بالجميع، وأن ترسم سيناريوهات مختلفة لتعاملها مع النظام الحالي، وأن تراجع مواقفها خلال كل هذه السنوات التي مرّت من دون تقدّم.