سياسة أميركية مزدوجة تجاه دمشق

07 يونيو 2025
+ الخط -

تشكّل الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة على سورية تحّدياً جسيما لهذا البلد، إذ تزيد هذه الاستهدافات القدرات السورية ضعفاً على ضعف، بما تتسبّب به من تدمير منهجي للقدرات الضعيفة، ويزداد الأمر سوءاً مع الصلافة السياسية التي تبديها حكومة بنيامين نتنياهو تجاه دمشق والقيادة الجديدة فيها، والتي تنطوي على تهديداتٍ سافرةٍ ومن غير أسبابٍ تسوّغ هذا التصعيد الجاري من طرف واحد. ورغم تكرار دمشق إنها ليست في وارد إشعال التوترات مع أي أحد، إلا أن هذه "التطمينات" تُقابَل بغطرسة إسرائيلية ظاهرة، فقد اختطت حكومة نتنياهو تجاه دمشق في عهدها الجديد سياسة تقوم على أن أي تسلح سوري مما تحوزه الجيوش التقليدية يشكل تهديداً للدولة العبرية، ويبدو أن الأخيرة على وشك أن تطلق مطلب نزع أسلحة سورية، لضمان أمن إسرائيل! وبما يشبه مطلباً سبق أن تقدّمت به موسكو لإقرار تسوية مع كييف، فالجار الصالح هو الذي يتجرّد من جميع أسلحته بجوار الجار المدجّج بالأسلحة المتطورة والفتّاكة. ويغدو المشهد أكثر تعقيداً، بالنظر إلى تلاقي حسابات خصوم العهد السوري الجديد، موضوعياً، لإضعاف هذا العهد وتجريده من أسباب المنعة، وحرمانه من تثبيت ركائز الاستقرار.

على الحكم الجديد أن يغادر حالة الارتباك السياسي، وألّا يكتفي بالقول إن دمشق ليست بصدد تهديد أي أحد أو أية دولة مجاورة أو غير مجاورة

ومع توالي الاعتداءات الإسرائيلية الجسيمة وافتقارها إلى مبرّر عسكري أو دفاعي، ومع تزايد ارتفاع أصوات مراكز دولية تندّد بهذه التعديات غير المبرّرة وتدعو إلى وقفها، كان من اللافت، في هذه الأثناء، أن ينطلق صاروخان من جنوب سورية نحو أهداف إسرائيلية، وهو ما سارعت تل أبيب للرد عليه موسّعة نطاق عدوانها على مناطق في الجنوب. وأياً كانت الجهة أو الطرف، وأيا كانت النيات وراء هذا النشاط المفاجئ على الجبهة السورية بعد عقود من الصمت، من الواضح أن تل أبيب قد رأت فيه مبرّراً لاعتداءات سابقة وراهنة وربما لاحقة. وإذا الأمر يوحي بخلط أوراق سياسية وعسكرية، فمن الواضح أن تل أبيب هي القادرة على استثمار هذا التطوّر وتوظيفه باتجاه إدامة اعتداءاتها، سعيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية، منها إخراج الموقع السوري كلياً من دائرة الصراع، وهو ما يفسّر يروز دعوات أميركية إلى الطرفين لتوقيع معاهدة عدم اعتداء متبادل، علماً أن اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 التي أبرمها النظام السابق تنطوي على التزام متبادل بوقف الأعمال الحربية، وقد سارعت تل أبيب إلى نقض هذه الاتفاقية، ما إن سقط النظام السابق وشنّت حملة على أركان النظام الجديد "المتطرّفين الذين يرتدون أزياء غربية".

أمام هذه الضغوط العسكرية الشرسة التي تتعرّض لها دمشق، على الحكم الجديد أن يغادر حالة الارتباك السياسي، وألّا يكتفي بالقول إن دمشق ليست بصدد تهديد أي أحد أو أية دولة مجاورة أو غير مجاورة، وأن تشرع في بلورة رؤيتها للسلام مع دولة الاحتلال، ومن غير أن تكون مدعوّة لاختراع شيء جديد. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان التركيز على المحور الأساسي لأية تسوية، إعادة الأرض المحتلة مقابل إبرام السلام، وأن دمشق توقع اتفاقية سلام ما إن تلتزم تل أبيب بالانسحاب من هضبة الجولان ومن الأراضي والمواضع التي تسلّلت إليها عقب 8 ديسمبر الماضي. ولكون دمشق ملتزمة بالإطار العربي والقرارات العربية العليا وبمبدأ الأمن الجماعي العربي، فإن دمشق تلتزم بمبادرة السلام العربية للعام 2002، وترى فيها إطاراً صالحاً لتسوية جدّية تنهي عقوداً طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت سورية طرفا فيه وضحية لمطامع إسرائيلية (كما كانت دول غربية طرفا فيه بصورة أو بأخرى).

يسترعي الانتباه إزاء موجة التعدّيات الإسرائيلية المتعاقبة أنها تقع فيما تطلق واشنطن مؤشّرات إيجابية متتالية تجاه دمشق

إنه لمما يسترعي الانتباه إزاء موجة التعدّيات الإسرائيلية المتعاقبة أنها تقع فيما تطلق واشنطن مؤشّرات إيجابية متتالية تجاه دمشق، بدأت حتى قبل لقاء دونالد ترامب بأحمد الشرع في الرياض، ومنها الأنباء عن زيارة مزمعة لوفد رسمي أميركي برئاسة وزير الدفاع العاصمة السورية، وكذلك ما تتواتر عن قبول أميركي لوجود مقاتلين أجانب يخضعون لهيكلية وزارة الدفاع، ويأتمرون بأوامرها ويعتنقون عقيدتها (وهذا ما لا يرتضيه الشطر الأكبر من السوريين، ولسان حالهم إن بوسعهم رفد الجيش الجديد بما يتطلبه من طاقات وموارد بشرية، دونما حاجة لمقاتلين جهاديين أجانب يجهلون كل شيء عن سورية وعن السوريين). والمراد قوله هنا إنه بينما ترفع واشنطن العقوبات عن سورية، وهذا حسن، فإنها، في الوقت نفسه، تغضّ الطرف تماماً عن تعدّيات عسكرية تتخذ هيئة "عقوبات"، ولا تعدو أن تكون بلطجة مكشوفة تشنّها تل أبيب على مواقع ومقدّرات سورية، لمنع هذا البلد من التعافي ولإغراقه في تحدّيات جسيمة، من دون أن يغيب عن البال أن الغرض الجوهري استدراج دمشق تحت السطوة العسكرية إلى الإذعان السياسي، والقبول بصيغة حل وصيغة سلام مزعوم تتماشى مع المطامح الإسرائيلية التوسّعية، ومع ما يسميه مجرم الحرب نتنياهو تغيير وجه الشرق الأوسط. ويثيرالحديث عن دعوة أميركية الشرع لتأدية زيارة رسمية إلى واشنطن في سبتمبر/ أيلول المقبل تساؤلات بشأن مغزى التقرّب الأميركي المتزامن مع تصعيد إسرائيلي، وكيف أمكن لواشنطن أن تجمع ما بين هذين النقيضين بأن تمدّ حبال الود والتسهيلات إلى دمشق، في وقت تتجاهل فيه التعدّيات الإسرائيلية الخطيرة والمتتالية، لا تدينها ولا تدعو إلى وقفها، وهو ما يجد نظيراً له في السعي الأميركي إلى وقف إطلاق النار في غزّة، المتزامن مع التعامي عن الفظائع اليومية بحقّ المدنيين هناك، حتى إن واشنطن تغضّ الطرف عن المهزلة الدامية لتقديم المساعدات، اذ تُستخدم المساعدات المزعومة هذه لزيادة تجويع الغزّيين من جهة، ثم للفتك بهم من جهة ثانية، حين يندفعون للحصول عليها. شيء كهذا تفعله إدارة ترامب مع دمشق بإرسال إشارات طمأنة وتسهيل تحقيق برنامج التعافي، وإعادة بناء ما هدمته حرب النظام على شعبه، جنباً إلى جنب مع تجاهل التدمير الإسرائيلي المتمادي للمقدّرات السورية. وعليه، لا مفرّ أمام الحكم الجديد من الربط بين الأمرين، بالترحيب بالمؤشّرات الأميركية الإيجابية، وفي الوقت نفسه، التشديد على أن هذه الإيجابية لا تتماشى أبداً مع إطلاق يد تل أبيب في التدمير.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.