سورية ودرس جرمانا
نقطة تفتيش لقوات الأمن العام السوري في شارع في جرمانا (2/3/2025 فرانس برس)
تختلف حادثة جرمانا في ريف دمشق عن الحوادث الأمنية المشابهة التي سبقتها، من ناحية دخول العامل الدولي في خطّ التأثير المباشر، والذي لا يمكن منعه بسبب الضعف العسكري والأمني الذي أصبحت عليه سورية، بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي قدراتها العسكرية، وبعد تسريح عناصر الشرطة التي كانت على معرفةٍ بدقائق الحياة اليومية لمدن البلاد وأحيائها، وبأسماء الخارجين على القانون فيها. أمّا الاختلاف الثاني، فيتعلّق بنضوج رأي عام تتنازعه أبواقٌ تحاول إثارة الفتنة عبر بثّ أخبار كاذبة، وتهويل حوادث أمنية، مستغلّةً الثغرة في المصداقية التي خلّفها غياب الإعلام الحكومي السوري، مع استمرار إغلاق الصحف وقنوات التلفزة. ومستغلةً أيضاً الضائقة المادّية التي يمرّ بها السوريون منذ سقوط النظام، وتردّي واقعهم المعيشي، وخطر انزلاق الشباب إلى الأعمال الإجرامية واضطراره، في مراحل متقدّمة من الفقر المدقع، للعمل لدى مثيري الشغب من أجل بعض المال.
من الأخطاء التي اقتُرفِت وأدّت إلى الفوضى فتح السجون، وخروج المظلومين والظالمين منها قبل التدقيق في ملفّاتهم لفرز المعتقلين السياسيين عن المعتقلين لأسباب جرمية
وقد كاد الأمر أن يفلت في مدينة جرمانا التي تبعد ثلاثة كيلومترات من دمشق، وأن يؤدّي إلى اشتباكات واسعة وفتنة، وربّما تدخّل عسكري إسرائيلي في المدينة، لولا الوساطات التي عملت على إنهاء حالة التوتّر. وعلى الرغم من أن الواقعة بدأت على خلفية شجار بين طرفَين من سكّان المدينة، مساء يوم الجمعة الماضي (28 فبراير/ شباط)، تصاعد فأدّى إلى إصابة شخصٍ نقل إلى أحد المشافي، إلا أن التوتّر الذي حصل في المستشفى بين مرافقي المصاب وأفراد من الأمن العام هو الذي أجج الموقف، عندما وصلت أخباره إلى سكّان المدينة، وعلموا بخبر توقيف المرافقين، ونقلهم إلى أحد أقسام الشرطة. عندها تصاعد التوتّر من جديد، وأعاد بعضهم نشر الحواجز في أحد مداخلها، وحين وصلت سيارة للأمن العام إلى الحاجز، حصل خلاف بين عناصرها وعناصر الحاجز تطوّر إطلاق نار، وأسفر عن مقتل عنصر من الأمن العام، وجرى بعدها محاصرة مخفر المدينة وطرد عناصره.
ومثل كّل حادثة مشابهة، سارع مطلقو الشائعات إلى مطابخهم لتفعيل الشائعات المُغرِضة، وبثّ الكراهية وإثارة النعرات الطائفية، وحضّ المتأثّرين بالواقعة على المطالبة بالتدخّل الدولي لحماية الأقلّيات، وهي شائعاتٌ كان لها دور في تصعيد الموقف، غير أن تدخّل وجهاء من المدينة، وآخرين من محافظة السويداء، واتصالاتهم مع مسؤولي الأمن العام، أدّى إلى تخفيف التوتّر، وانتشار قوات الأمن العام داخل جرمانا، مع استمرارهم في البحث عن المتورّطين في قتل عنصر الأمن العام لاعتقالهم، خصوصاً بعد رفع شيوخ المدينة الغطاء عنهم، وصنّفوهم "خارجين عن القانون"، وفق بيان أصدروه.
هل يمكن ردّ هذه الحادثة إلى أخطاء اقترفتها السلطة الجديدة فور سقوط نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وتولّيها السيطرة على البلاد؟ لا جديد في القول إن السلطة الجديدة اقترفت عدّة أخطاء قاتلة، وكان يعوّل على قدرتها في تغيير الواقع السياسي والمعيشي من أجل تجاوز تلك الأخطاء، وعلى الوعود الصريحة التي قطعتها أمام الشعب السوري، وليس اعتماداً على آمال مجرّدة. ومن الأخطاء التي اقتُرفِت وأدّت إلى الفوضى فتح السجون، وخروج المظلومين والظالمين منها قبل التدقيق في ملفّاتهم لفرز المعتقلين السياسيين عن المعتقلين لأسباب جرمية، والذين يمكن إعادة محاكمتهم على خلفية عدم الثقة في محاكم النظام البائد، فأصبحوا خلايا نائمةً تستغلّ الثغرات الأمنية لتمارس أعمالها الإجرامية.
أمّا احتمال جرّ آخرين إلى صفوفهم، فقد جعلت سياسة الحكم الجديد الأرضية جاهزة لهذا الأمر، بسبب الفقر المدقع، الذي تسبّبت به زيادة أسعار الخبر وتحرير سعر المازوت المخصّص للنقل العام، ما أدّى إلى استنزاف الموارد المالية الشحيحة أصلاً لدى المواطنين، حين بات مرتّبهم الشهري، الذي لا يتجاوز 35 دولاراً، غير كافٍ لدفع بدل المواصلات، فما بالك بتأمين متطلّبات الحياة. كذلك، مسارعة الحكم إلى تسريح جزء كبير من العاملين في القطاع العام، في تجاوزٍ إداري وقانوني، وهي خطوة قيل إنها تهدف إلى إبطال حالة الفساد التي رافقت تعيين جزء كبير منهم، مع عدم أخذها في الحسبان العناصر الضرورية لاستمرار سير العمل، أو عامل الأقدمية، إذ ساوت بين من أمضى 25 سنة خدمة، وبين من لم يكمل سنتين أو ثلاثا في منصبه. كما لم تراعِ الحالة الاجتماعية أو عدد أولاد المعيل، ما رمى هؤلاء في الشارع، وجعل حياتهم في مهبّ الرياح. وهي في مجملها أخطاء أدّت إلى إحداث إحباط سريع لدى من عوّلوا على الحُكم الجديد، بأن يقطع مع ممارسات النظام البائد، الذي اعتمد التفقير وزرع اليأس في نفوس السوريين، لشلّ حركة المجتمع ومنع أي قدرة على الاحتجاج أو الفعل التغييري. كما تسبّبت هذه السياسة في خشية الناس على لقمة عيشها، وأدّت إلى دخول كثيرين في حالة من الكآبة لعجزهم عن تأمين ثمن ربطة الخبز لأبنائهم، وهذا سيجعل بعضهم لقمةً سائغةً لمن يريد افتعال قلاقل. وتزامنت حادثة جرمانا مع مضي الموعد الذي ضربه الحُكم الجديد للشعب السوري وللأسرة الدولية من أجل تشكيل الحكومة الانتقالية، التي تُعلَّق عليها الآمال في تسيير شؤون البلاد وإقلاع العجلة الاقتصادية المتوقّفة.
وتضاعفت خطورة الحادثة بعدما كُشِفت نيّات الإسرائيليين في التدخّل بشؤون البلاد، وإمكانية استغلالهم أيّ حادثة شبيهة للتدخّل الفوري. فقد تبيّن أن الإسرائيليين لا يتربّصون بسورية فقط، بل هم أعلنوا جهاراً أنهم على أهبة الاستعداد للتدخّل في البلاد لحماية الأقلّيات من السلطة، التي قالوا إنهم سيعملون على إضعافها. وفي هذا الإطار، سارع رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، يسرائيل كاتس، إلى إصدار أوامرَ وتوجيهات للجيش الإسرائيلي بالاستعداد للدفاع عن مدينة جرمانا السورية. كما صرّح كاتس بأن كيانه لن يسمح للنظام في دمشق باستهداف الدروز في سورية، وأنهم سيستهدفونه إن استهدف الدروز، من دون توضيح معايير الاستهداف التي يتحدّثون عنها وحجمه.
درس جرمانا لا يتعلّق بالواقع الأمني في سورية فحسب، بل يتعدّاه إلى تأثير الواقع المعيشي في الواقع الأمن
وتأتي هذه التصريحات بعد أيام من تصريحات نتنياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر حول إقامة منطقة منزوعة السلاح في سورية، وهي المنطقة التي بدأوا عملياً في إقامتها بعد توغّلهم في أراضي البلاد فور سقوط النظام. كما تأتي بعد المعلومات عن أن دولة الاحتلال تسعى لدى واشنطن من أجل إبقاء سورية ضعيفةً، ومنع تركيا من زيادة نفوذها في البلاد، وإقامة قواعد عسكرية فيها، ومنعها من عقد اتفاقات مع الحكم الجديد تساعد في تعافي البلاد. فهل يتحينون الفرصة لدخول دمشق؟ إنها الخطّة الواضحة التي تدفعهم إلى هذه التصريحات، وذلك إذا أخذنا في اعتبارنا أن جرمانا هي ضاحية من دمشق.
على الرغم من كشفه ما تحضّر له دولة الاحتلال لزعزعة أمن سورية، واحتمال تدخّلها العسكري المباشر فيها، إلا أن درس جرمانا لا يتعلّق بالواقع الأمني في البلاد فحسب، بل يتعداه إلى تأثير الواقع المعيشي في الواقع الأمني. كما يشير إلى ضرورة المسارعة في تشكيل الحكومة، وتنفيذ الحُكم الجديد وعودَه بالقطع مع ممارسات الحكم البائد، من أجل سيادة القانون واعتماد التشاركية والشفافية في حكم البلاد. وكذلك الإسراع في تنفيذ وعود قطعها للمواطنين بتحسين مستوى المعيشة، مع الأخذ بالاعتبار الآمال الكبيرة التي وضعها عليه السوريون وفرحوا به.