سورية ملعباً تركيّاً؟

27 ديسمبر 2024
+ الخط -

ذاع وصفُ تركيا في الأسبوعين الماضيين أنها الرابح الأكبر في سورية بعد إطاحة نظام الأسد وهزيمته الكاملة أمام فصائل المعارضة المسلحة، وشاع عن إيران أنها الخاسرُ الأكبر هناك. ولأن في القوليْن صحّةً ووجاهةً، فإن مََراراً يختلج في حشايا المواطن العربي، مردُّه أن سورية، البلد الذي ظلّ يوصف مركزياً في الأمة العربية، وفي صراعها مع المشروع الصهيوني، بل وفي رهانها الحضاري البعيد أيضاً، صار، منذ سنوات، ساحةً لرابحين وخاسرين، ملعباً تتبارى فيه دولٌ في الجوار والإقليم وفي أبعد منهما، بجيوشٍ ومليشياتٍ ومخابرات، وباستباحات سلاح الجو الإسرائيلي شبه اليومية. ولم يكن شيءٌ من هذا كله ليكون لو حصّن الأسد الأب الدولة التي بناها، أو أعاد بناءها على مقاسات أجهزته وخياراته، بمقادير من العدالة والرّشد والحكامة واحترام آدميّة السوريين، ولم يشكّلها جمهورية خوف، ولو أدرك نجلُه، سيما بعد لحظة 2011، أن الدولة التي فرض على السوريين رئاستَها ليس في مكَنتها أن تستمرّ، فيما اهتراءُ دواليبها العسكرية المهنيّة المؤسّساتية، وتآكل منظوماتها العامّة، لا ينفكّان يُسرعان، إلى مدىً فوجئنا بهوْل فداحته، لمّا تكشّف، على الهواء مباشرة على الشاشات، أن جيش الدولة لم يعُد جيشاً، وأن الأخيرة ليست دولةً تماماً، فهبط عسكر هيئة تحرير الشام ومن معهم إلى دمشق من حماه وحمص منتصرين على لا أحد، فصار صحيحاً قول عزمي بشارة إن الجيش شريكٌ في خلع نظام الأسد، عندما لم يُحارب هؤلاء. وأيضاً، لمّا دلّت الأيام العشرون الماضية على أن النظام المُنصرف لم يترك وراءَه دولةً عميقة، على ما صحّ قولٌ آخر لبشارة.
كان طبيعيّاً أن تخلو سورية، الملعب، من الخاسرين، من إيران ومليشياتها وأذرعةٍ لها، من بقايا حزب الله، وأن يغادر الروس إلى ليبيا وغيرها. وكان بالغ السفالة، وساطع الدلالة على هوانٍ عربيٍّ بلا قيعان، أن يُجهِز سلاح الجو الإسرائيلي، في أنشط عملية له منذ 1967، على قدرات الجيش السوري. ولمّا كان من البديهيّ، ربما، أن تزهو تركيا بالمشهد السوري الجديد، إذ يجعلها "رابحاً أكبر" فإن أكثر من نقطة نظام ستطلّ في الأثناء، لا تتعلق أيٌّ منها بالبهجة التركية المنظورة، ولا ببحث أنقرة عن مصالحها الحيوية في سورية ما بعد الأسد، فهذا وتلك من طبائع الأمور. وإنما لأن ثمّة إحساساً، له ما يبرّره، بأن أنقرة تعمل على ما يتجاوز المصالح الطبيعية إلى دورٍ نافذٍ على السلطة السياسية قيد البناء في البلد. وإذا صحّ أن الرئيس أردوغان ينوي زيارة دمشق بعد أيام، فيصلي في الجامع الأموي، فستكون زيارةٌ مبكّرةٌ من هذا النوع رسالة تُبلغ الإقليم والجوار إن لتركيا حصّةً وازنةً في سورية المرتبكة الغامضة حاليا، المأمول أن تكون، لاحقاً، مستقرّة وواعدة ولكل ناسها. وذلك مع التسليم المؤكّد بصدق النيات التي عبّر عنها أردوغان، الثلاثاء الماضي، ومنها أن بلاده سقدّم كل عوْنٍ للشعب السوري. والمحسوم أن هذا الشعب يحفظ امتناناً خاصّا لما أسعفتهم به الدولة التركية، وهي الجارة القوية والناهضة، في سنوات محنتهم الأربع عشرة الماضية، كما أن نُخبَه في قوى المعارضة لن تنسى الدور الخاص لتركيا في إسنادها سياسياً وإعلامياً.
ولا يجانب واحدُنا الصواب لو جهر باسغرابه (ودهشته ربما) من مسارعة تركيا، على لسان وزير النقل والبنية التحتية، عبد القادر أوزال أوغلو، إلى إعلان أن بلادَه تعتزم بدء مفاوضاتٍ مع سورية لترسيم الحدود البحرية. ولئن يذهب الاستغراب إلى ما قد ينمّ عنه هذا القول من "لهفةٍ" إلى هذا الترسيم الذي يُجيز لسائلٍ أن يسأل عن السبب الذي جعل أنقرة تعتصم عن مفاوضة نظام الأسد بشأنه، إبّان كان الأخيران (الأسد ونظامه) صديقيْن لتركيا في العقد الأول من الألفية الراهنة. بل وكان في الوسع أن تفاوضه في سنوات التوتّر المعلومة التالية، سيّما وأن الوزير أوضح أن أيّ اتفاقٍ في هذا الخصوص مستقبلاً سيكون متوافقاً مع القانون الدولي. ... أيقظ غضب اليونان من هذا الكلام مخاوف "تقليدية" من نزوعاتٍ تركيةٍٍ في المنطقة، سيّما وأن الإرث بين البلدين غير طيّب. ومع افتراض الجانب السوري حُسن النية في الجهر التركي بهذا الأمر، إلا أن للمعلّق أن يطرح بعض أسئلةٍ استفهاميةٍ (وغير استفهامية؟) بشأن الصورة التي ستكون عليها العلاقات السورية التركية، في المستقبليْن، المنظور والقريب، سيّما وأن زمناً ليس قصيراً سيحتاجه بناء الدولة السورية المشتهاة، والتي يُؤمل أن لا تبقى ملعباً، لا لرابحٍ أكبر ولا لغيره.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.