سورية... رؤية من الخارج
تمنح قراءة المشهد السياسي للبلدان من الخارج، في أحيانٍ كثيرة، فرصةً للمختصّين وصنّاع القرار لمعرفة الصورة التي تصل من البلد، ويتردّد صداها في جلّ دوائر النفوذ المحلّي والدولي. قد تكون غير دقيقة، ولكنّها مع ذلك تظلّ مهمّةً. إنها ترسم صورةً تتحلّل ملامحها وتفاصيلها لتبقى في هيئة عامّة هي الصورة الكلّية (الجشطالتية)، التي تبعث رسائل تصوغ إدراكاتنا حولها. إنها شكل من أشكال النمط المثالي الذي عناه ماكس فيبر، أي التضخيم المقصود لإبراز الملامح الكبرى للأشياء.
ما الذي يصل إلينا نحن الأباعد من سورية، وكيف تصل إلينا تلك الصورة؟ هذا هو الأكثر أهميةً في اعتقاد كاتب هذه السطور. لقد مررنا بالتجربة ذاتها في تونس، ولم نكن ندرك تماماً ونحن في الداخل أن صورة تونس في الخارج تختلف تماماً عمّا ندركه في الداخل. لا يهمّ من عدّلها، ولكن صورتنا، في كلّ الحالات لم تتطابق مطلقاً عن بلدنا مع الصورة كما يدركها الخارج. تماماً، هذا ما يحدث مع بلدان تمرّ بتغيّرات كبرى، يظلّ المحيط يلتقط من بعد شذرات من صورتها ليعيد تركيب "البوزل" كما يشاء. كنا في تونس نتكيّف ونحرص على تهوين ما يحدث وعدم تضخيم ما يجري، ولم يكن ذلك مجرّد شهوة أو عناد، بل كانت الأمور تجري ونعتقد أنها "تحت السيطرة"، وأنها مجرّد انفلات عابر، وأن شعبنا سيتحمّل إلى ما لا نهاية له عشقاً للحرّية وانتصاراً للثورة والثوار. غير أن الأمر كان على خلاف ذلك، كانت الأرض تميد تحت أقدامنا ونحن نتوهّم أننا رسّخنا انتقالنا إلى الأبد. حين نسافر، يبادرنا من نلتقيه بألف سؤال عن صورة مخيفة ومرعبة؛ إننا تورا بورا شمال أفريقيا. ربما كان عنادنا يخفّف علينا تلك التشوّهات التي أصابت الصورة وجعلتنا "قبلة الإرهابيين"، وحالةً قصوى من الفلتان والفوضى... إلخ. هي الصورة بقطع النظر عن صدقها وكيفية تشكّلها وترويجها وإقناع الناس والرأي العام الدولي بها.
كلما بكّرنا في تعديل الصورة الذهنية عن سورية وجفّفنا منابع الغلط ولجمنا تلك الانحرافات، استطعنا أن نقدّم صورةً أقرب إلى الواقع
تماماً ذاك ما يحدُث حالياً مع سورية، مع فوارقَ كُبرى، ولكن ليس لها معنىً على مستوى تشكّل الصورة وجملة الإدراكات التي تُرسَل بها إلى محيطيها القريب والبعيد. ربّما لا تملك تونس كلَّ التنوّع الإثني والثقافي الذي يسم سورية منذ تاريخ طويل، وربّما لم تتوسّط تونس أيضاً بلداناً حدودها هي خطّ النار المتوجّس دوماً؛ الكيان الصهيوني ولبنان والأردن والعراق... إلخ. ومع ذلك، تظلّ لعبة الجمر هي ذاتها تقريباً، خاصّة عند تذويب التفاصيل والفوارق؛ "إسلاميون يمسكون بالحكم"، وهي لافتة عريضة يتم توسيعها لتشمل طيفاً واسعاً من "طالبان" إلى "العدالة والتنمية"، وقد يدقّق بعضهم فيستعمل مصطلحاً فضفاضاً لا يقلّ غموضاً وتوظيفاً هو "الإسلام السياسي". الصورة التي تصل عن سورية أن إسلاماً سياسياً، وأحياناً جهادياً، يحكم البلاد، لم تستطع ربطة العنق ولا البدلة الإفرنجية التي ارتداها أحمد الشرع، ولا غيرها من الرسائل المباشرة، سواء في المظهر أو في تعبيرات "الإعلان الدستوري"، تخفيف تلك الملامح التي صاغتها ريشة الرسّام، أي اليد الخفية التي تصوغ ملامح الحكّام والبلد معاً أثناء التغيّرات السياسية الكُبرى.
حين حكمت في تونس (بموجب نتائج انتخابات المجلس التأسيسي) ثلاثة أحزاب مختلفة في منطلقاتها الأيديولوجية، إسلامية محافظة واشتراكية منفتحة وعروبية ليبيرالية (الترويكا)، ظلّ العالم الخارجي لا يرى سوى حركة النهضة، أيِ الإسلامي السياسي حاكماً للبلد. طُمس عمداً التعدد حتى يتيسّر تحريك الفزّاعة: "الإسلاميون في الحكم". يحدث هذا وبشكل مضاعف عشرات المرات في سورية الآن، خصوصاً في غياب التعددية الحزبية. أمّا حالة الانفلات الأمني فقد ظلّت تلاحق التجربة رغم التحسّن الكبير الذي تحقّق في تونس بعد ما يناهز شهرين فقط من سقوط النظام. استطاع الأمن التونسي أن يبسط يده ويضع حدّاً لكلّ الجرائم الاجتماعية (نهب محلّات تجارية وتصفية حسابات عشائرية وعائلية محدودة) خصوصاً في حالة الفراغ التي سُجّلت في الأسابيع الأولى من الثورة، إذ أحرقت مقارّ أمنية وانسحب آلاف الأمنيين من الشوارع فتحصّنوا في منازلهم خوفاً من ردّات فعل انتقام لم تحدث أصلاً، ولكن كانت الصورة مضخّمة ومتدهورة، إنها دولة تكاد تكون دولةً فاشلة. ما يحدث في سورية حالياً ينحو منحىً مختلفاً تماماً، إنها بلد يحكمه أمراء الحرب، مليشيات لا أحد قادر على السيطرة عليها، ورغم حلّها وبداية تشكيل قوى أمنية تحت سلطة الدولة ونواة جيش وطني، فإن الرسالة التي تصل إلينا مختلفة تماماً؛ فلتان أمني رهيب وقتل طائفي بشع خارج أجهزة الدولة. من ينكر أهمية الصورة التي تصل إلى الخارج، يكابر. إنها صورة غير دقيقة، وفي كثير من الأحيان فيها تضخيم وتجنٍّ، ولكن هي الإدراكات التي تصوغ التمثّل الذهني لوضع سورية الراهن.
كيف يمكن تعديل الصورة؟... هناك العديد من الوصفات المجدية، ولكن كلما بكّرنا في تعديل الصورة وجفّفنا منابع الغلط ولجمنا تلك الانحرافات، استطعنا أن نقدّم صورةً أقرب إلى الواقع.