سورية... خطوة في مشوار الألف ميل

06 فبراير 2025
+ الخط -

تضافرت عشرات الأسباب في سقوط نظام القمع الدموي في سورية في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024؛ وقوفه ضدّ الإرادة الشعبية الذي يعني وقوفه ضدّ طبيعة الأشياء وقوانين المجتمع؛ قيامه على اعتبار مصالح فردٍ واحدٍ وحلقة ضيّقة من المنتفعين قلّص قاعدته الاستنادية؛ همجيّته في قتل الثائرين عليه واعتقالهم وتهجيرهم، التي دمّرت الدولة باقتصادها وبناها الخدمية وأسس وجودها؛ اعتماده على العسكر والأمن، الذي قتل المجتمع وهدّم أصل الحياة في أيّ دولة؛ اعتماده على قوىً خارجيةٍ، وأخرى طائفيةٍ غير منضبطة، أفقده الدور الوظيفي الذي من خلاله كان قد بنى شرعيّته في الإقليم؛ انحيازه لمحور إيران الذي أفقده التوازن المطلوب للاستمرار على ساقِ القبول الدولي، بعد أن كسر ساقه الداخلية بيديه؛ استنفاده (بغباء منقطع النظير) الفرصة تلو الأخرى، فتحت من خلالها الدولُ أبوابَها أمامه، من دون أيّ محاولة منه لتغيير ذاته المعطوبة.

ما كان لجهةٍ أن تضبط الحالة السورية أكثر من فصيل هيئة تحرير الشام، فالعقائدية والانضباط والجهوزية التي تمتّع بها جعلته الأكثر تأهيلاً للحلول في محلّ نظامٍ منخور حتى نقيّ عظامه. التجربة الإدارية في منطقة ضيّقة (ومحدودة) فتحت له هامشَ الإدارة بحدودها الدنيا، وبأدنى الدرجات البدائية المطلوبة. المرونة السياسية لقيادته، والتواصلات العميقة مع الدول، من خلال أجهزتها، ورسائل التطمين الواضحة، خلّفت الانطباع بإمكانية وجود البديل القابل للحياة. المقبولية العامّة عند فئات عريضة ووازنة من السوريين والسوريات، وضعف الأجسام السياسية والمدنية الموجودة في الساحة، والتعب العامّ من سنوات الحرب، ولامركزية قرار الفصائل العسكرية، ومحدودية تواصلها البيني، وقلّة فاعليتها الناجمة عن تفرقها وقلّة المقبولية الشعبية عند غالبيتها، أسباب مهمّة جداً، وباجتماعها ساهمت في هذه النتيجة.

تسلمّت الجماعة دولةً منهارةً بكلّ معنى الكلمة، ولأن ذلك كان ضمن ظروفٍ غير طبيعيةٍ من جهة التحدّيات الداخلية والخارجية، فقد استوجب من هذه الجماعة تدابير احترازية لتدعيم سيطرتها العسكرية بسيطرة أمنية وإدارية، فكانت الوزارة في المرحلة الأولى من لونٍ واحدٍ يتّصف بالولاء المطلق. اتسمت المرحلة الأولى من لحظة سقوط النظام البائد فعلياً، وحتى تاريخ إعلان هذا السقوط، بسماتٍ عديدة، أهمّها غياب التواصل المباشر مع القوى السياسية التقليدية، وتحييد الأجسام والكيانات الثورية والمدنية، وحصر التواصل مع الفئات الشعبية من خلال الإعلام البديل. اتُّبِعت سياسة الغموض وجسّ النبض وقياس ردّات الفعل، سواء عن معرفة مسبقة وتخطيط أم عن قلّة تجربة وتخبّط، من خلال إطلاق بوالين الاختبار حول قضايا جوهرية، مثل مؤتمر الحوار الوطني، إنهاء الحالة الفصائلية، التشاركية في بناء الدولة، وتطمين المكوّنات السورية المختلفة. حصرت الجماعة تركيزها داخلياً في الخطر الأكبر المتمثّل بالفصائل العسكرية، التي تملك القدرة على تثبيت الواقع أو قلبه في الوقت ذاته. خارجياً استكملت القيادة البراغماتية تثبيت علاقاتها الإقليمية والدولية، التي عملت عليها في المرحلة السابقة، على المستوى الأمني بالحدّ الأدنى. كانت الرسائل الأكثر حِنكةً وديناميكيةً تلك التي وجّهتها إلى دول الجوار والإقليم والدول الكُبرى: صفر مشكلات إقليمياً، وانخراط إيجابي بالأدوات السياسية، وعودة إلى الحضن العربي وقطع دابر التأثير الإيراني بالمطلق، وسدّ الذرائع أمام إسرائيل بعدم التطرّق للصراع معها إلا من باب القانون الدولي والمؤسّسات الدولية، وعدم إهمال مصالح الدول الكُبرى، وإيجاد توازن مقبول بينها.

الدستور الذي أُعلِن تعليقه كان معلّقاً فعلاً منذ إقراره، فلم يطبّق النظام البائد منه حرفاً

أعلنت القوى العسكرية المجتمعة 29 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، قرارات جاءت بمثابة إقرار الأمر الواقع: إعلان انتصار الثورة السورية، واعتبار 8 ديسمبر (2024) يوماً وطنياً. إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية. حلّ مجلس الشعب واللجان المنبثقة منه. حلّ جيش النظام البائد وإعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية. حلّ جميع الأجهزة الأمنية العائدة للنظام البائد بفروعها وتسمياتها وجميع المليشيات التي أنشأها، وتشكيل مؤسّسة أمنية تحفظ أمن المواطنين. حلّ حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية، وما يتبع لها من منظّمات ومؤسّسات ولجان، ويحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية. حلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسّسات الدولة. تولّي أحمد الشرع رئاسةَ البلاد في المرحلة الانتقالية، وقيامه بمهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، وتمثيلها في المحافل الدولية. تفويض رئيس الجمهورية تشكيل مجلس تشريعي مؤقّت للمرحلة الانتقالية، يتولّى مهامه إلى حين إقرار دستورٍ دائمٍ للبلاد، ودخوله حيّز التنفيذ.

تأتي هذه القرارات تحصيل حاصل من الناحية الفعلية، فالشرع استقرّ منذ وصوله إلى دمشق في قصر الشعب، وتبوّأ سدّة الرئاسة، وتصرّف بوصفه قائداً ورئيساً. الدستور الذي أُعلِن تعليقه كان معلّقاً فعلاً منذ إقراره، فلم يطبّق النظام البائد منه حرفاً. أمّا القوانين الاستثنائية فلم يُعمَل بها حقيقةً منذ يوم سقوط النظام. حزب البعث وأحزاب الجبهة ومنظّماتها توقّفت عملياً عن العمل، بل أصدر "البعث" قراراً بذلك، وتخلّى عن جميع الممتلكات والأصول، التي كانت تحت سيطرة الدولة. كذلك، انحلّ الجيش، واندثرت المليشيات العسكرية، وفرط عقد الأجهزة الأمنية المرعبة فعلياً لحظة السقوط. يبقى القرار الوحيد الذي لم ينفّذ فعلياً، ويصعب الحكم حالياً على إمكانية تنفيذه، المتعلّق بحلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسّسات الدولة، وهذه تحتاج إلى نقاش وتفصيل وتوسّع.

هل يشمل القرار قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وإن شملها، ما السبيل إلى تنفيذه فعلياً؟ هل تلجأ الرئاسة إلى الحرب أم تستكمل طريق السياسة والتفاوض؟ هل يشمل القرار أيضاً الجيش الوطني، وهل تنفّذه فصائل هذا الجيش من دون اعتراض أو مقاومة؟ هل يشمل هذا القرار الحكومةَ المؤقّتةَ في الشمال والائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية؟ وهل يملك المؤتمرون السوريون حلّ كيانٍ مؤسّس بقرار دولي كاللجنة الدستورية، وبتفويضٍ دولي، كائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التفاوض؟ هل يشمل القرار جميع المؤسّسات الثورية والسياسية، كالأحزاب والتحالفات والمجالس والهيئات ومنظّمات المجتمع المدني غير المسجّلة في سورية، وما هو السند القانوني لإلغائها، ما دامت مسجّلة في بلدان أخرى أو غير مسجّلة أو مرخّصة في سورية على الأقل؟

التحدّيات الداخلية والخارجية استوجبت من هيئة تحرير الشام تدابير احترازية لتدعيم سيطرتها العسكرية بأمنية وإدارية

الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها كثير، رهن بالواقع الداخلي بتعقيداته كلّها، وبالتوافقات والتفاهمات الإقليمية والدولية، وبفاعلية الكيانات التي تمسّها هذه القرارات، وبالقبول الشعبي وما يُبنَى عليه من دعمٍ أو إعاقة. يجب ألا ننسى هنا قوى النظام المهزومة، التي لن تتوقّف عن محاولات الإعاقة والتخريب، ويجب ألا ننسى القوى الإقليمية التي تتبنّاها وتدعمها كإسرائيل وإيران وغيرهما.

ليس موقف مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وقواتها العسكرية (قسد) ضعيفاً، لكنّه ليس قويّاً أيضاً. هو مرتهنٌ، بشكل أو بآخر، بالتفاهمات الأميركية التركية. لا يتوقّع أن تسلّم إدارة ترامب ورقة التحكّم الكبيرة هذه للأتراك أو للرئيس الجديد بسهولة، هناك استراتيجية أميركية في المنطقة تجعل الوجود الأميركي في شمالي سورية وشرقيها أمراً ضرورياً. لن يتمكّن الأتراك من إزالة الوجود الكردي من سورية، فهم أساساً ينهجون مسار السياسة التصالحية معهم في تركيا نفسها، أمّا الأكراد السوريون فهم كالعرب السوريين منقسمون شيعاً وفرقاً أيضاً، لكنّ التغيرات الكبيرة التي جرت مع سقوط النظام ستدفعهم إلى الحوار البيني من كلّ بدّ، وإن لم يفعلوا سيكونون الخاسر الأكبر في معادلة شدّ الحبال هذه. ليست القيادة السورية في عجلةٍ من أمرها، إلا بأن تحصل على الموارد الكُبرى الواقعة تحت سيطرة "قسد"، فإعلان النصر رفع أسهمها شعبياً، وهو عامل ضغط إضافي على "مسد" و"قسد". يمكن للقيادة السورية الجديدة انتظار نتائج التوافقات التركية الأميركية، لكن عليها أيضاً أن تقدّم حلولاً عملية وواقعية تتضمّن بعض أوجه المشاركة، وتضمن بعض الحقوق الكردية المشروعة ضمن الإطار الوطني السوري.

ما هو موقف فصائل الجيش الوطني من هذه القرارات؟ كيف ستدخل ضمن تشكيلة الجيش السوري الجديد؟ وهل يمكن تفكيكها وتوزيع أفرادها وفصلهم عن قياداتهم؟ وهل تقبل بذلك إن بقيت "قسد" كتلةً واحدةً، وهل تقبل هي و"قسد" الانحلال إذا لم تحلّ قوات هيئة تحرير الشام نفسها؟ ثمّ كيف يمكن حلّ قوات هيئة تحرير الشام العسكرية، وهي التي حلّت محلّ الجيش السوري والأمن، وهي التي دخلت كتلةً واحدةً في البنية الجديدة لوزارة الدفاع؟ أليس في طلب القيادة السورية الجديدة من الفصائل حلّ نفسها تناقضٌ مع ما تقوم به هي ذاتها من ناحية أنها تركّز السلطات العسكرية كلّها في يدها؟ ما هو الضامن لدى قادةٍ كثيرين في أن يحافظوا على مكتسباتهم أو أن يتجنّبوا التهميش بالحدّ الأدنى والملاحقة أو التصفية بالحدّ الأعلى من الممكنات؟... هذه ليست أسئلةً افتراضيةً، بل هي واقعٌ مطروقٌ لا بدّ من إيجاد الحلول له بكلّ جديّة وحكمة، وإلا لن نصل إلى الهدف المنشود.

الإجابة عن الأسئلة السورية المعلّقة رهن بالتوافقات والتفاهمات الإقليمية والدولية وبتعقيدات الواقع الداخلي، وبالقبول الشعبي

يُفهَم من الكلام المتعلّق بحلّ الأجسام الثورية السياسية والمدنية، الائتلاف واللجنة الدستورية وهيئة التفاوض والحكومة المؤقتة، ودمجها في مؤسّسات الدولة مباشرةً، وجميع هذه الأجسام تقع في مناطق النفوذ التركي المباشر. لكن كيف ستُدمج هذه المؤسّسات ضمن هيكلية مؤسّسات الدولة، وما الحاجة إليها، خاصّة وزارات الحكومة المؤقتة والمجالس المحلّية وبقية الهياكل التنظيمية المدنية مثل النقابات والاتحادات وغيرها؟ ليست هذه القضايا مُجرَّد أسئلة مشروعة، إنها مجموعة متشابكة من الإجراءات الاقتصادية والإدارية التي تترتّب عليها مسائل حياتية يومية لمئات آلاف الأسر السورية في تلك المناطق. أمّا بالنسبة لكلّ من الائتلاف وهيئة التفاوض، فإنّ مبرّر وجودهما انعدم مع سقوط النظام، ولا مشكلة تثيرها مسألة إعلان وفاتهما، لأنهما كانا عالةً على الثورة السورية، ولم يحظيا بأدنى مستويات القبول الشعبي. بالنسبة للجنة الدستورية، يمكن القول ببساطة إنها الكيان الوحيد الذي يحتاج حلّه إلى شرعية دولية باعتباره أنشئ استناداً للقرارات الأممية، ويمكن الاستفادة من بعض عناصرها ومنجزاتها على قلّة المفيد منها. مع ذلك، لن يشكّل تجاهلها أيّ معضلة كُبرى، لا عند الشعب السوري، ولا عند قيادته الجديدة، ولا حتى عند الدول التي ستتخفّف من عناء الإنفاق عليه مع إدراكها بأنّها كانت طوال الوقت تنفخ في قربة مقطوعة.

المشكلة التي تحتاج حلّاً حقيقياً شمول المؤسّسات الثورية والسياسية كالأحزاب والتحالفات والمجالس والهيئات ومنظّمات المجتمع المدني في قرارات الحلّ المذكورة أعلاه. فمن هذه المؤسّسات النقابات الحرّة التي أثبتت فاعليتها خلال أعوام الثورة، بل إنّ بعضها تسلّم تركة النقابات المركزية السورية بعد التحرير. ثم قد لا تلتزم الكيانات السياسية من أحزاب وتحالفاتٍ ومنظّمات مجتمع مدني مسجّلة خارج سورية بهذه القرارات، فمن سيمنعها من العمل في بلاد المهجر مثلاً، أو كيف ستطاولها قوانين الدولة السورية، إن لم تسجّل في قيودها؟... قد تتمكّن الإدارة السورية الجديدة من تنظيم عمل هذه الهيئات والمؤسّسات بعد صدور الإعلان الدستوري المؤقّت أو التشريعات المؤقّتة المرتقبة من المجلس التشريعي الانتقالي، فبموجب قانون الأحزاب وقانون النقابات وقانون المنظمّات والجمعيات، يمكن ضبط عمل هذه الكيانات العاملة في فضاء المجتمع المدني، وبغير ذلك يتعذّر تنفيذ مضمون هذه القرارات. والحقيقة أنّ الدولة السورية الجديدة بحاجة إلى توسيع فضاء المجتمع المدني وإلى ضبطه وتنظيمه، لأنها لا يمكن أن تستغني عنه، ولا أن تتجاوزه، ولا أن تغطّي الجوانب المهمة التي يغطّيها نشاطه.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود