سورية الجديدة المثيرة للفضول

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
أكثر من صديق زار سورية في الأيام الماضية، وجاء بانطباع مشجّع مشوب بفرح، تخالطه حيرة وتخوّف من المجهول. أغلب هؤلاء الأصدقاء سوريون، وهذا طبيعي، يدفعهم إلى ذلك "رتق ما انقطع"، إن صحّ التعبير، زيارة الأهل أو من تبقّى منهم على قيد الحياة، وكذلك بعث عوالم الطفولة والصبا، إذ لا شيء ظلَّ على حاله، ولكن قليل خير من فراغ.
ومعاناة الحنين كتاب كبير في خوالج التغريبة السورية، حتى أولئك الذين تحسّنت أوضاعهم في المنافي، وبرزوا فيها من خلال مواهبهم وطاقاتهم، فإن أمر زيارة الوطن لا مفرّ منه، خاصّة أننا نتحدّث عن مجتمع حرّ، فتجد عند كلّ سوري ذكريات اجتماعية جميلة تركها في وطنه، تنفّس الهواء الطبيعي، فقال إن سورية تمتلك أنقى هواء في العالم، وهو ما يمكن أن يتعزّز تاريخياً أيضاً، مثلاً عندما نتذكّر "بيمارستان" الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حين لم يجد صعوبة، إنما حيرة، في الوقوف على البقعة الأنقى والأكثر صحّة لبناء أول مستشفىً رسمي في تاريخ الإسلام، وهناك من أراد أن يرى بلده وقد تقدّم به العمر ليلتقي بمن بقي من الأحياء.
يشبه الأمر عودة كثير من كُتاب تشيلي بعد سقوط حكم بينوشيه. نقرأ تفاصيل ذلك في تجربة الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، التي (كما يقال) قادت المنفيين في رحلة العودة إلى تشيلي. ويتجلّى أيضاً جزء من هذا الصراع المرير في روايتها السيرية "باولا"، إذ يوجد كثير من تفاصيل المؤامرة التي قادتها المخابرات الأميركية على ابن عمّ أبيها، الزعيم الثوري سلفادور الليندي. يمكن أن تشبّه تشيلي سورية في ذاكرة القمع والسجون السوداء، ونتمنى ألا تشبهها في المآل، إذ كثيراً ما تتدخّل المخابرات الأميركية في إزاحة أي ضوء في بلد عربي، وهو ما ينكشف عاماً بعد آخر، مثل الذي ذكره الروائي العراقي على بدر في روايته السيرية "الزعيم... خرائط وأسلحة" (2024) عن الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم، حين كلّفت أميركا من يصفّيه في مكتبه.
الأصدقاء من غير السوريين تملّكهم الفضول لمعرفة سورية بعد حكم الدكتاتور. أيضاً، ممّا يثير الفضول هو تصريحات القيادة السورية الجديدة التي تتّسم بالهدوء والدبلوماسية (والذكاء، لِمَ لا!)، كما حصل أخيراً مع خطاب وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في منتدى دافوس، في حواره مع توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. ومن خلال تعليقات السوريين على هامش هذا الحوار، يمكن تلمّس مدى الإعجاب بشخصية وزير الخارجية، فإلى جانب إتقانه الإنجليزية، امتاز أيضاً بالهدوء والمسايرة والإجابات اللمّاحة، خاصّة في المواضيع التي تطمئن الغرب (ظاهرياً) مثل موضوع مشاركة المرأة، والحرّيات الشخصية.
منذ فترة قريبة التقيت كاتب السيناريو السوري المقيم في مسقط، نور الدين الهاشمي، وهو الذي كتب أجزاءً مهمة من حلقات المسلسل السوري المعروف "مرايا"، حين سألته عن الوضع الجديد، فأطلق (في سياق حديثه) عبارة "جنود الله" على الثوار، الذين خلّصوا سورية من حكم الأسد. فهم، حسب وجهة نظره، لم يذهبوا إلى البنوك إنما إلى السجون لتحرير من فيها، ولم تشهد الثورة في آخر حلقاتها إلا حوادث بسيطة، والسبب أن الذي حدث لم يكن بأيدٍ أجنبية، إنّما من فعل أبناء البلد. ويمكن استذكار هنا ما فعلته القوات الأميركية حين دخلت العراق، إذ لم يبقَ شيء لم يُنهَب، وكان أوله المتحف الوطني العراقي، ثمّ ما خلفه ذلك الاحتلال من حرب طائفية بشعة، ما زالت آثارها باقية حتى الآن، وقد عبّر عن تلك النوايا الحاكم الإداري للعراق، بول بريمر، إبّان الاحتلال الأميركي في مذكّراته، وتنفيذه العملي لنوايا "الفوضى الخلّاقة"، التي كانت تصرّح بها الإدارة الأميركية وقتئذ.
هناك خوف من التقسيم والفوضى غير خاف على أحد، إلى جانب الارتباك في إصدار حكم مستعجل على المرحلة. ولكن بعد تتابع التصريحات من المسؤولين السوريين الحاليين، يمكن الشعور بشيء من الطمأنينة. فالقضية الأساس حالياً في سورية هي قضية اقتصادية: كيف يمكننا أن ننهض بالبلد لكي تنمو وتتقدّم؟ وكان الإلحاح على رفع العقوبات هو هاجس معظم المسؤولين السوريين من خلال تصريحاتهم المتعاقبة.
لم نكن من قبل نعرف سورية إلا مقترنة بالقمع والغموض. الطاقات السورية الهائلة المتوزّعة في ربوع العالم، تؤكّد أن الشعب السوري خلّاق ومبدع إن وجد الفضاء المناسب.


كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية