سلوك سياسي في مغرب 2021
تتبادر إلى الذهن تعابير ومفاهيم تحليلية كثيرة أقام عليها الباحث والأنثربولوجي الأميركي جون واتربوري أطروحته "أمير المؤمنين... الملكية والنخبة السياسية"، في تفسير سلوك النخبة، حُكماً ومعارضةً في المغرب. استحضار هذا الكتاب (تناول العلاقات السياسية في بداية الاستقلال ومُنع زمناً طويلاً في المغرب) تمليه مناخات الوضع الحالي في المغرب. بالرغم من التطوّرات العميقة والتحوّلات الكبرى التي طبعت 50 سنة من الحياة السياسية، سواء في النصوص المُؤطِّرة للفعل السياسي ولتوازن المؤسّسات أو في انصرام أجيال بكاملها من الممارسين في الدولة والمجتمع معاً، وحصول قراءة جماعية، لا محايدة ولا مُجامِلة لنصف قرن من الصراع بين مكوّنات الحقل السياسي، التي طبعتها أحياناً حالاتُ قمع وحشيٍّ وتصفياتٌ سياسيةٌ ومقابرٌ جماعيةٌ وتعطيلٌ للفعل السياسي المواطن. قراءة كان العهد الجديد يريد بها تجاوز المرحلة، وفتح فصل جديد في تدبير الدولة والمجتمع، وتكريس مكتسبات فعلية وملموسة في الديمقراطية والحكامة والتنمية، والتطلّع إلى أدوار إقليمية ودولية بحجم العراقة التاريخية. ولعلّ ما أثار هاته التداعيات متابعة الصراعات الحادّة التي تطبع علاقات الحقل السياسي، ولا سيّما في تقدير الفعل الحكومي الراهن، وطبيعة التشكيلة القائمة وراءه، وتأسيساً على ذلك تقدير فهم الأحزاب (المكوّنة لها) لما يجب أن يكون عليه التنافس السياسي في الفضاء العمومي.
لا شيء يمنع من أن يكون زعيم الأغلبية الحكومية نفسه ضحية أسلوب مارسه في حكومة "العدالة والتنمية" أيام بنكيران
يقوم التحيين الذي يتبادر إلى الذهن، لمقولات تأسيسية في فهم الأنثروبولوجيا السياسية، على المعاينة الجماعية لما يُهيكل المشهد السياسي. فعلى بُعد سنة ونصف السنة (تقريباً) من الانتخابات التشريعية، دخلت المكوّنات الثلاثة للحكومة في سباق مع الزمن بعضها ضد بعض، ولم تتردّد في استعمال الأساليب والوسائل كلّها (بما فيها الوسائل المشروعة) لزعزعة بعضها بعضاً، في وقت ينتظر فيه الرأي العام أن تتقدّم موحّدةً للدفاع عن حصيلتها في تدبير البلاد منذ نُصّبت في 2021.
من المفيد أن يُشار إلى أن الحكومة بحد ذاتها "تلخيص" لزمن سياسي مغربي، في جزء كبير منه، بحيث أنها مكوّنة من ثلاثة أحزاب: الاستقلال، والتجمّع الوطني للأحرار، وحزب الأصالة والمعاصرة، وكلّ واحد يرمز إلى فترة ملكية محدّدة من فترات المغرب الحديث. حزب الاستقلال الذي يعود تأسيسه إلى أربعينيّات القرن الماضي تزامن وجوده مع فترة النضال ضدّ الاستعمار في تحالف قوي مع محمد الخامس. ففي ديسمبر/ كانون الأول 1943 تأسّس الحزب. وفي 11 يناير/ كانون الثاني 1944 قدَّم عريضة المطالبة بالاستقلال إلى الإقامة العامّة بالمغرب، بتأييد وإشراف ومباركة من السلطان محمد الخامس. وفي التطوّر السياسي، وبعد سنوات الصراع القاسي منذ بداية الستينيّات بين الملك الحسن الثاني والأحزاب المتحدرة من الحركة الوطنية (الاستقلال والاتحاد الوطني، ثمّ الاشتراكي للقوات الشعبية والحزب الشيوعي، وخلفه التقدّم والاشتراكية)، تقرّر إنشاء حزب التجمّع الوطني للأحرار، وقد تولّى المهمة صهر الملك الراحل، الرجل المحترم أحمد عصمان، الذي تولّى مهام سياسية عليا، منها رئاسة الوزراء في لحظات معينّة من تاريخ المغرب، عقب الانتخابات التشريعية لعام 1977، وهو البيت السياسي الحالي لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، ثمّ أخيراً حزب الأصالة والمعاصرة، الذي كان صديق الملك في المدرسة المولوية، ومستشاره حالياً فؤاد عالي الهمة وراء تأسيسه مع بداية العهد الجديد في مايو/ أيار 2008.
لا يروم هذا السرد السياسي سوى الإشارة إلى أن التكتّل الحكومي كان يتوافر على أسباب معقولة للتعاضد والانسجام، إلى حين الانطلاقة الرسمية للمنافسة الانتخابية، بعد تقديم الحساب. لكن واقع الحال يكشف أن الأغلبية الحكومية لا تبدو في حالة انسجام طافح، بالرغم من "قرابتها" في التنشئة السياسية، فقد خرج الأمين العام لحزب الاستقلال ووزراؤه ينتقدون قراراتٍ صدرت باسم حكومةٍ يشاركون فيها، ومن هذه الانتقادات الإعلان عن لائحة المستفيدين من الدعم العمومي لاستيراد اللحوم الحمراء، أكانت للاستهلاك اليومي أو لضمان أضاحي العيد بعدد وافر، وهو الوضع الذي أعطى مبرّراً لخروج وزير آخر من الحزب نفسه ليكشف عن مفارقة ما بين مليارات الدراهم (13 مليار درهم، حوالي 1.3 مليارات دولار)، توزَّعها 18 شخصاً، وصعوبة تأمين ملايين المغاربة لهذه الأضاحي، ما استدعى تدخّل الملك لدعوة المغاربة إلى الاستغناء عن ممارسة شعيرة ذبح الأضحية.
وعوض أن يكون الحديث عن ملابسات هذا الدعم والعجز الحكومي عن توفير القطيع الضروري للأضحية، كما للاستهلاك اليومي، داخل الأغلبية، نجد أنه خرج إلى العلن، وهو ما يفهم منه أن حزب الاستقلال ينتقد رئيس الحكومة التي يشارك فيها، وهو انتقاد إذا لم يكن فيه اتهام لرئيس الحكومة نفسه فهو يظهره بمظهر المتواطئ مع المضاربين (الشنَّاقة بالمغربية الدارجة). والأنكى أن هذا الاتهام يتزامن مع حالة احتقان رهيبة في الوسط الاجتماعي تتسم بارتفاع الأسعار وعجز الأسر عن مسايرة كلفة المعيش اليومي، وارتفاع نسبة البطالة ونسبة الفقر المطلق عمَّا كانت عليه مع الخروج من مرحلة جائحة كوفيد-19.
بالنسبة للمتتبع للحياة السياسية لا يمكن أن تغيب عنه سابقة للحزب نفسه، في حكومة التناوب التوافقي التي قادها الفقيد عبد الرحمن اليوسفي في نهاية التسعينيّات باسم المعارضة الاشتراكية، وقد تميّزت بالرسالة التي كان قد وجّهها زعيم حزب الاستقلال والوزير المشارك وقتها في الحكومة عباس الفاسي عبر البريد العمومي. وتضمّنت نقداً للحكومة عبر تقديم مقترحات لسياسة بديلة، أحدثت تفاوتاً في تقدير الموقف، وأعقبها تنازعٌ في قيادة الحكومة التي جاءت بعد حكومة اليوسفي. ما دفع الملك محمّد السادس إلى تعيين رجل تكنوقراطي هو إدريس جطو لقيادة حكومة 2002، والقصّة معروفة بشعار "أمولا نوبة" (دوري أنا). وبالرغم من التغييرات الجوهرية في النصّ الدستوري ما بين فترة اليوسفي والحكومات التي تشكّلت على قاعدة دستور 1102، فإن السلوك يبدو أنه ظلّ محكوماً بما يمكن تسميته "اللاشعور السياسي للنخبة".
حزب الأصالة والمعاصرة هو نفسه لم يتردّد في تقديم انتقاد بطريقة مغايرة، فدعا حكومةً هو الحزب الثاني فيها إلى مواجهة المضاربات، والحال أن الدعوة عوض أن تترجم بنود عمل جماعية من داخل "الحرم" الحكومي جاءت في بيان للعموم، وهو ما يُفهم منه أن الحزب ينتظر من رئيس الحكومة التجاوب مع مطلبه بعد أن كان مطلباً شعبياً ترفعه المعارضات المتعدّدة، المؤسّساتية منها وغير المؤسساتية. ولعلّ "اللمز" السياسي الأكثر دلالةً هو عندما قدّم الحزب نفسَه باعتباره المؤهّل مستقبلاً لقيادة حكومة المونديال، وهو ما يرمي إلى بيع فرو الدبّ قبل موعد اصطياده، أي تلميحه أن الحزب الذي يقود الجهاز التنفيذي حالياً لم يعد ورقةً رابحةً ولا حظوظ له لذلك. ومن المفيد هنا استحضار خروج بعض منظِّريه، ومنهم أمينه العام السابق للتحذير من هيمنة الأوليغارشية المالية التي يمكن أن تهدّد الدولة نفسها، وذلك عبر وضع يدها على الدولة والديمقراطية معاً.
يمكن أن نقرأ في هذا التنافس صيغةً لـ"تقديم طلبات عروض ديمقراطية" من أحزاب الحكومة الحالية، تعبيراً عن إرادة مضمرة تفيد بأنه لا بديل لقيادة الحكومة المقبلة خارج هاته الثلاثية، التي استطاعت تأمين احتكار مؤسّساتي واسع طوال الفترة الحالية (من الحكومة إلى الجماعات الترابية مروراً بالبرلمان بغرفتيه والجهات)، لكن يمكن أن نعود في قراءة المشهد إلى مقولات واتربوري السابقة، والقول إن الأسلوب السياسي للنخبة في هذا المضمار يبدو كأنّه لم يختلف عن أسلوب الستينيّات، أي أنه يعتمد وصفة العالم الأميركي، بالتركيز في أن الثابت فيه "هو العمل على إضعاف القوي"، بناء على مقولة مغربية معروفة (سأتغدّى به قبل أن يتعشّى بيا)، وهو ما يمكن ترجمته بالمسارعة إلى استنزاف الحزب القوي حالياً، بفتح الباب أمام "تشكيل تكتّلات هجومية" جديدة، لعل إحدى سوابقها حملة المقاطعة التي كانت قد طاولت رمز الحزب القوي حالياً في سنة 2018، التي ما زالت أسرارها والتنقيب في مسبّباتها مستمرّة.
ستخاض الحرب بين نخب برلمانية مغربية متنقلة حزبياً من دون هُويَّة سياسية تصنع الفرق
يساعد في استحضار شبكة القراءة القديمة أن كلّ شيء ممكن في العالم الصغير للنخبة السياسية المغربية، ولا سيّما أن الحرب ستخاض في النهاية بين نخب برلمانية، تنتقل من حزبٍ إلى آخر، من دون هُويَّة سياسية قارّة يمكنها أن تصنع الفرق. إنها حرب موارد تتحرّك بناء على هُويَّات مناسباتية (أو وضعياتية، أي حسب الوضعية المطروحة). ويقوّي هذا التوجّه أن الحزب الذي يقود الحكومة لم يأتِ بمشروعٍ سياسيٍّ يعبئ لولايته الحالية (وربّما لم يكن في حاجة إليه) ما دام المشروع موجوداً، وعليه توافق كبير بين المغاربة والطبقة السياسية، وقد صاغه ملك البلاد في توجّهاتٍ عديدة، منها "الدولة الاجتماعية" عنواناً بارزاً. وما كان منتظراً منه هو النجاح في حكامة التنزيل الجيّد لهذا المشروع، ولا سيّما أنه استقطب عديدين من رجال الأعمال الذين كانت المراهنة عليهم كبيرة في نقل نجاحهم الفردي إلى دواليب الدولة.
ما حصل أن الحكومة انتهت، لأنها من بين الحكومات الأقلّ شعبيةً في المغرب، بالرغم من إنجازات معتبرة في تنفيذ الخطاطة التي أقرّها الملك بخصوص المعضلة الاجتماعية، لقد "نجحت" في إحداث توتّراتٍ عديدة مع قطاعات واسعة في أوساط المغاربة، علاوة على نزاعاتها مع مؤسّسات دستورية عديدة (ما تسمّى مجالس الحكامة، من قبيل المجلس الاجتماعي والاقتصادي ومندوبية الإحصاء والهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة). زد على ذلك أنه لا شيء يمنع من أن يكون زعيم الأغلبية الحكومية نفسه ضحية أسلوب كان قد مارسه في حكومة "العدالة والتنمية" أيام عبد الإله بنكيران.