سلامة موسى في قرى البحرين

20 ابريل 2025

(عبد الكريم العريض)

+ الخط -

أقام المنبر التقدمي في البحرين، قبل أيام، حفل تأبين لاثنين من مناضليه رحلا أخيراً، مهدي إسماعيل وحسين الخبّاز. عادةً ما يكون تأبين الراحلين من الرفاق مناسبةً لتسليط الضوء على صفحات مجهولة من حيواتهم، كون التيار الذي انتسبوا إليه نشط بشكل سرّي نحو نصف قرن متواصلة، منذ كانت البحرين ومنطقة الخليج تحت الحماية البريطانية، واستمرّت هذه الحال حتى بعد الاستقلال، قبل أن يُصار إلى السماح بعمل التيارات السياسية في البحرين بصورة علنية بدءاً من العام 2001. ومعلوم أنّ ظروف العمل الحزبي السرّي أبقت تفاصيل كثيرة مجهولة، بما في ذلك أدوار (وتضحيات) المنتسبين إلى هذا التيار وسواه من التيارات الوطنية، الذين يؤثرون عدم الحديث عنها تواضعاً منهم.

شمل حفل التأبين إلقاء كلمة لزوجة المرحوم حسين الخبّاز خديجة عبد الحسن الناصر. كلمة عفوية صادقة مفعمة بالوفاء لرفيق حياتها، واستذكار محطّات من حياتهما المشتركة. ومن حيث لم ترد الزوجة، سلّطت الضوء على جوانب من عطاء التيار اليساري في البحرين، لا في النضال ضد المستعمر ومن أجل الاستقلال والديمقراطية والمشاركة السياسية فقط، وإنّما أيضاً من أجل تمكين المرأة، لا بالمطالبات وحدها، وإنما أيضاً بالفعل المباشر من منتسبي هذا التيار ومنتسباته في توعية المرأة بحقوقها، وتشجيع انخراطها في العمل من أجل هذه الحقوق، منطلقين من وعيهم بأن ذلك غير ممكن من دون تعليم المرأة.

صحيحٌ أنّ تعليم المرأة في البحرين بدأ مبكّراً نسبيّاً مقارنةً بالدول الخليجية الأخرى، حيث افتتحت أول مدرسة نظامية حكومية للبنات في 1928، وكان من الطبيعي أن يبدأ ذلك في المدن، العاصمة المنامة والمحرّق، قبل أن تفتح مدارس للبنات في بعض القرى، وهذا لا يعني بصورة تلقائية أنّ كل العائلات كانت مستعدّة لتسجيل بناتها في المدارس، نظراً إلى الفهم المحافظ السائد يومها عن الدور المنوط بالنساء، ما جعل قطار التعليم يفوت أعداداً كبيرة منهن كان في وسعهن الانتظام في المدارس. وهنا لعبت الجمعيات النسائيّة التي نشطت فيها منتسبات التيارات اليسارية والقومية في البحرين دوراً مهمّاً في حملات محو الأمية في صفوف النساء.

قالت السيدة خديجة عن ذلك في كلمتها إنّ المرحوم والدها كان يرى دخولها المدرسة النظامية حراماً، فلم يحالفها الحظّ في ذلك الزمان، شأن بقيّة بنات القرية التي وُلدت فيها، في التعلم في المدرسة، فاكتفت بحفظ القرآن الكريم، لكن الحظّ حالفها في أن تقترن برفيق حياتها حسين الخبّاز في ظروف مختلفة عما هي عليه اليوم. ولأنّ الزوج، حسب وصفها، "كان مثقفاً وواعياً ووطنيّاً يؤمن بحرية المرأة، متعلمةً، واعيةً بما يدور في المجتمعِ"، ولإصراره على أن يرى زوجته قادرة على القراءة والكتابة، أدخلها مدرسة محو الأميّة.

سنفهم من سياق الكلمة أنّ المدرسة التي دخلتها ومحت أميتها افتتحتها جمعية ئسائيّة نشأت في القرى، جمعية فتاة الريف، ومن أبرز قائداتها نجاة الموسوي، الناشطة النسائية المناضلة في صفوف جبهة التحرير الوطني اليسارية مع مجموعة من شقيقاتها ورفيقاتها وصديقاتها، وواجهت هذه الجمعية يومها حملة شعواء من التيارات الدينيّة المحافظة، ولكن عضواتها صمدن وواصلن عملهن رغم الصعاب، مُحققاتٍ المكاسب، التي لم تكن ممكنة لولا دورهن، وفي مقدّمتها تعليم عديد من النساء الأميّات في القرى، ممن تميّزن بالذكاء والمثابرة والتلهف الشديد للتعلم والمعرفة، وخديجة واحدة منهن. وتسلط هذه التجربة على جانب مُغفل من دور المجتمع المدني الحديث في البحرين في النهوض بالوعي المجتمعي في مرحلة صعبة وظروف مُعقدّة، ما يجعل صحيحاً القول إنّه شريك أساسي في صنع الحداثة المجتمعيّة والسياسيَة في البلاد.

وفاءً لذكرى زوجها ودوره في حياتها، قالت المتحدثة: "ما كنتُ سأحقق النجاح لولا زوجي، فكان هو السند الأول الداعم لي نحو التعلم والمعرفة"، حيث إنّه شجعها على قراءة الكتب الحديثة، وسمّت من بينها مؤلفات سلامة موسى صاحب "المرأة ليست لعبة الرجل"، واللبناني جورج حنا مؤلف "المرأة جسدٌ وروح"، ونوال السعداوي صاحبة "الأنثى هي الأصل"، فمؤلفات هؤلاء وسواهم من أدباء وكتّاب الحداثة دخلت البيوت في قرى البحرين منذ مطالع النصف الثاني من القرن الماضي، لتضيء عقول رجال ونساء كثيرين وتأخذ بأيديهم نحو درب النور والمعرفة والحرية.

كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها
حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.