سكوتٌ عندما يجبُ الكلامُ!

13 فبراير 2025

(جبر علوان)

+ الخط -

قد يكون الصمتُ حين يُصبح خياراً أبلغ من الكلام، لكنه أيضاً قد يكون أقسى ما يُمكن أن يتحمّله القلب. هناك لحظاتٌ في الحياة يُصبح فيها السكوتُ أشبه بالخيانة للذات، حين يكون للكلام ثمن، وللصمت ثمنٌ أكبر، وحين يكون التعبير ضرورةً، لكنك تجدُ نفسك عاجزاً عنه، مقيّداً بحواجز لا تراها، لكنها تُحكم قبضتها عليك.

المتنبي، في بيته البديع: "وأكثر ما تكلّفني الليالي/ سكوتٌ عندما يجبُ الكلامُ"، لم يتحدّث عن الصمت الذي يأتي من الحكمة، بل عن ذاك الذي يُفرضُ على صاحبه حين يكون الحديث واجباً، لكنه لا يملك القدرة على النطق.

كم مرّةً شعرتَ أن الكلمات تتزاحمُ في صدرك، لكنها تُخنَق قبل أن تصل إلى لسانك؟ كم مرّةً وجدتَ نفسك في موقفٍ يستدعي منك أن تُدافع، أن تشرح، أن تعترض، أن تصرُخ، لكنك بقيتَ صامتاً، كأنَّ حاجزاً خفيّاً يمنعك من كسر هذا الجمود؟

قد يكون الخوفُ من العواقب، أو الشعورُ بأنَّ الحديث لن يغيّر شيئاً، أو ربما الإرهاقُ من محاولاتٍ سابقة أُجهضت قبل أن تجد صداها.

الصمتُ في مثل هذه الحالات لا يكونُ هدوءاً، بل يكون صراعاً داخليّاً بين ما ينبغي قوله وما لا يستطيع أن يُقال.

نعم... هناك صمتٌ ثقيل، ليسَ لأنه يريح، بل لأنه يوجع. كأنَّك تحملُ داخلك أصواتاً مكتومة، لغةً مُجهضة، وحواراً كان يجبُ أن يحدُث لكنه لم يحدُث أبداً. إنه الصمتُ الذي يبتلعُ الحقائق، الذي يجعلك شاهداً على انحرافات الحياة من دون أن تستطيع الاعتراض، وهو الذي يجعلك ترى الخطأ، والظلم، والفقد، والخذلان، وتظلُّ واقفًاً في منتصف العاصفة، عاجزاً عن النطق. ليس لأنَّ الكلمات لا تأتي، بل لأنها تأتي مُثقلةً بكل ما يمنعها من الخروج.

وفي المقابل، هناك من يُتقن الصمت، من يجعل منه درعاً يحتمي به حين يصبحُ العالمُ صاخباً بطريقةٍ لا تُحتمل. الصمتُ في بعض الأحيان يكون مقاومة، يكون رفضاً للهدر الذي يُفسد جوهر الكلام، يكون وقوفاً صلباً أمام ضجيجٍ لا معنى له. لكن، حتى هذا الصمت، مهما بدا اختياراً، قد يُكلّف صاحبه أكثر مما يتخيّل. فليس هناك عقوبةٌ أشدُّ من أن تضطرَّ إلى التخلّي عن صوتك، وعن قدرتك على أن تكون حاضراً في المشهد بكامل حقيقتك، لا بظلّك الصامت فقط.

هناك مواقفُ لا يُغتفرُ فيها الصمت، حين يكونُ الصوتُ هو الفارقُ بين الحقِّ والباطل، بين العدلِ والظلم، بين النجاةِ والغرق. حين يكونُ بإمكانك أن تقول كلمةً قد تُنقذُ أحدهم، لكنك تُقررُ الصمت. هذا النوعُ من الصمت، المُحمَّل بالندم، هو ما يُثقلُ الأرواح ويجعلُ الليالي تمرُّ وكأنها عقابٌ غير مرئي. المتنبي لم يكن يشتكي من الصمتِ العادي، بل من ذاك الصمت الذي يلتهمُ صاحبه من الداخل، الذي يجعله يعود إلى نفسهِ متأخراً، مُدركاً أنَّ كلمةً واحدةً كان يمكن أن تُغيّر كل شيء، لكنه لم يقلها.

والأصعبُ من الصمت حين يجبُ الكلام، هو إدراكُك المتأخر لذلك. حين يُصبحُ الماضي صندوقاً مليئاً بالكلماتِ غير المُقالة، بالفرص الضائعة، بالأحاديث التي لم تحدث أبداً. حين تتمنى لو عاد الزمنُ إلى الوراء لتقول ما كان ينبغي أن يُقال، لكنَّ الزمن لا يعود، ولا يبقى سوى شعورٌ مُرٌّ بأنك تركتَ لحظةً فاصلةً تمرُّ من دون أن تتركَ فيها أثرك.

لكن، ماذا لو لم يكن الصمتُ دائماً خطأً؟ ماذا لو كان أحياناً هو الخيارُ الوحيد الذي يتركُ لك كرامتك؟ هناك معاركُ يخسرها المرءُ حين يتكلم، وهناك كلماتٌ تُقالُ ثم تتحولُ إلى قيودٍ في عنقِ قائلها، وهناك لحظاتٌ يكونُ الصمتُ فيها ليسَ ضعفاً، بل حفاظاً على ما تبقى من النفس. الصمتُ قد يكونُ عقاباً، لكنه أيضاً قد يكون نجاةً، وقد يكون المسافة الأخيرة بينك وبين الانهيار.

ليس هناك استجابة واحدةٌ لهذا الصراع، كما أنَّه ليست هناك قاعدةٌ تُحدّدُ متى يكونُ الصمتُ واجباً ومتى يكون جريمة. كل ما نعرفه أنَّ الحياة تُلقي بنا في مواقف تجعلُ منّا أشخاصاً يتأرجحون بين الصمت والكلام، وبين الرغبةِ في النطقِ والخوفِ من العواقب، بين الاحتفاظِ بالحقيقة لأنفسهم وبين المجازفةِ بقولها مهما كان الثمن.

لكن، مهما كان الصمتُ مكلفاً، يبقى الكلامُ في بعض اللحظات أغلى منه. لأنَّ هناك أوقاتاً لا يمكنُ فيها للإنسان أن يتخلّى عن صوته، لا يمكنه أن يقبلَ بأن يكونَ مجرّد متفرجٍ على حياته، مُكتفياً بالصمت حين يكونُ عليه أن يتحدّث، حين يكونُ الصوتُ الفارقُ الوحيد بين أن يكونَ حاضراً أو أن يكونَ مجرّد ظلٍّ يُراقب المشهد من بعيد.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.

The website encountered an unexpected error. Please try again later.