سقوط الحضارة الغربية... حقّاً

03 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 03:01 (توقيت القدس)

(فاسيلي كاندينسكي)

+ الخط -

فكرتا "بربرية أوروبا" ومعها "سقوط الحضارة الغربية" تثيران الاستغراب للوهلة الأولى لدى من يتناول الفكرة بمنظور سطحي. إذ كيف يُعقل أن نصف غرب المدنية والقانون وحقوق الإنسان والعلم والتنوير... إلخ. بأن فيه بربريةً وهمجيةً، بل وأن يستشرف بعضهم سقوط هذه الحضارة؟
في الواقع، من يطلق هذه الأوصاف على الغرب وحضارته مفكّرون من الغرب نفسه، وليسوا عرباً أو إسلامويين. أي أنه يصحّ القول هنا "شهد شاهد من أهلها". لكنّ هؤلاء المفكّرين لم يكونوا يقصدون أن الغرب سوف يتهدّم فوق رؤوس أصحابه كما في الحروب العالمية، أو أن قطعاناً من الهمج وقطّاعي الطرق سوف يسرحون ويمرحون في الشوارع والمحطّات والمطارات يخرّبون مظاهر المدينة والحضارة. تتضح المسألة حين نغوص في واحد من معاني حضارة الغرب وتقدّمه وحداثته، إذ سنقف على ما يسمّى بالأساس "باراديغم" (نموذج). إن الغرب انتهى منذ عقود إلى طرح "باراديغم" حديث ومغاير لكلّ نماذج التفكير السابقة، ولا سيّما من جهة طرح منظومة قيم كبرى، صارت هي المعيار الناظم للحياة في الغرب.

يدرك العقل الغربي شروخه الداخلية والمركزية، فينقدها وينقضها، ليبني من جديد بعد أن يهدم. فالهدم والبناء معاً هما من أوضح علامات الحداثة

و"باراديغم" الحضارة الغربية مجموعة من القيم والأفكار والممارسات والأسس الفلسفية والعلمية، التي شكّلت تطوّر الغرب منذ العصور الوسطى، وحدّدت طريقة تفكيره، وتنظيمَ مجتمعاته، وتطوّر علمه وتكنولوجيته. كثير من بنود هذا "الباراديغم" صالح وضرورةٌ قصوى لكلّ مجتمع يسعى إلى أن يتشكّل من داخله بطريقة حديثة، ويقطع فيها مع سطوة الماضي والقيم المستقرّة، بكلّ نسقها الجامد. ولكن أيضاً، ما يُعنى بسقوط الحضارة الغربية ينال هذا "الباراديغم" تحديداً، بمعنى أن السقوط والتدهور شأنان يتصلان بالفكر والثقافة والعلاقات والمنتج الحضاري والحداثي، وينال آلة السياسة والاقتصاد والعلاقة مع الآخر، وينال عيوب النموذج من داخله، هذا النموذج الذي وجد نفسه مجابَهاً بتساؤلاتٍ حول الفردية المفرطة، أو الهيمنة التكنولوجية، أو الاستعمار الثقافي والبيئي، وجد نفسه عرضةً لرفض أدّى إلى ولادة حركات ما بعد الحداثة التي تعجّ فكرياً ومعرفياً ببعض جوانب الحداثة والعلم والسياسة... إلخ. بتعبير مكثّف، انتقل "الباراديغم" من أنه حلّ للمشكلة ليصبح، في جزء كبير منه، مشكلةً.
ولو رحنا نستعرض أبرز نظريات سقوط الحضارة هذه، لكان علينا الانطلاق من الألماني أوسفالد اشبنغلر، صاحب كتاب "انحطاط الغرب" (Decline of the West)، والمترجم إلى العربية تحت عنوان "تدهور الحضارة الغربية" (ترجمة أحمد الشيباني، دار مكتبة الحياة، بيروت)، والذي يعني بالألمانية زوال أو غروب الغرب (Der Untergang des Abendlandes)، حتى نصل إلى نظرية "نظام التفاهة"، مروراً بأرنولد توينبي، وإدغار موران، كأبرز الأسماء وأكثرها حضوراً وسجالاً. فنحن مع اشبنغلر نرى الحضارة الغربية التي دخلت مرحلة الشيخوخة، وهيمنت عليها العقلانية الباردة والمادية والتكنوقراطية، مع ضعف الإيمان بالأفكار الكبرى، واستبدالها بالصيغ الشكلية والتقنية. فالحضارة هنا مثل النباتات والشجر وكائنات الطبيعة الحيوية تهرم وتسقط. وسيكون أرنولد توينبي في كتابه "مختصر دراسة للتاريخ" (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011)، أكثر تفاؤلاً من اشبنغلر، فالحضارات عنده تنشأ عندما تواجه تحدّيات صعبة أو مستعصية، وهي تنهار عندما تفشل في الاستجابة لهذه التحدّيات، لذلك فالحضارة الغربية لم تسقط بعد، لكنّها بحاجة إلى تجديد روحي وإنساني، وليس تقنياً فقط. لأن التقدّم المادي لا يعني بالضرورة تقدّماً أخلاقياً أو روحياً.
ونحن مع الفرنسي إدغار موران نرى أبرز صوت فلسفي غربي حديث قوّض الباراديغم الغربي من داخله بلا هوادة، في مجموع كتبه، خاصّة كتاب "ثقافة أوروبا وبربريتها" (ترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2007)، فهو يرى أن البربرية "ليست مجرّد عنصر يرافق الحضارة، وإنما هي جزء لا يتجزأ منها"، وهو يسمّيها "البربرية التاريخية". لذلك، فالحضارة الأوروبية تواجه "بربريةً داخليةً"، أي فقدان الإنسانية، والقيم، والوعي الذاتي، بسبب من الانفصال بين العلم والإنسان وطغيان الاقتصاد على الحياة الاجتماعية، ليستعبدها ويفرغها من الروح، وأدى هذا إلى فقدان الهُويَّة الإنسانية المشتركة. لذلك، لا بدّ من إعادة بناء مشروع حضاري جديد يقوم على التفكير المركّب، والتكامل بين المعارف، وإعادة تفعيل الصلة بين الإنسان والطبيعة، وإلا فإنه، بحسب موران، تمرّ أوروبا بـ"أزمة وجود"، وليس أزمةً سياسيةً أو اقتصاديةً فقط.
وأتى زيغمونت باومان أخيراً ليعمّق من أدوات النقد والتفكيك للعالم الحديث بكل مظاهره، وذلك بأن ابتكر مفهوم "السيولة"، إذ لم يعد هناك شيء صلبٌ متماسك قويّ ذو بنيانٍ مرصوص، بل كلّ شيء أصبح سائلاً، غير ثابت، غير آمن، غير واضح. ماذا يعني ذلك للحضارة الغربية؟... يعني ضعفاً بنيوياً حاسماً في العلاقات الاجتماعية، وانهياراً في المشاريع طويلة الأمد، وهيمنة الفردية القصوى، والاستهلاك، وعدم اليقين. وهو ما خلق لدى الإنسان الغربي فقدان الشعور بالانتماء، وتفاقمت من حوله اللامساواة، وتحول بعض البشر "أشخاصاً زائدين". باختصار، يرى باومان أن الحداثة تتحوّل إلى نظام غير إنساني.
نستخلص من مجمل هذه النظريات أن معنى سقوط الغرب وحضارته هو فقدان هذا الغرب وحضارته لـ"المعنى"، على الرغم من كلّ مظاهر الرفاه والرخاء التي باتت الآن محلّ تشكيك. وقوع الغرب في "اللامعنى" ليس توصيفاً عابراً أو خارجياً، بل سوف نجد له معادلاً واقعياً في شتى مناحي الأدب والفنون بأصنافها. لذلك صرنا نرى لوحة الموزة الشهيرة شكلاً من أشكال التجريب الفنّي، لا يعدم أن يجد من يدافع عنه ويتبنّاه.

انتقل "باراديغم" الحضارة الأوروبية من أنه حلّ للمشكلة ليصبح في جزء كبير منه مشكلةً

لنا أن نقارن بين عمالقة الرسم (حتى بول كلي التجريدي) وما آل إليه أولئك الذين يدفعون ملايين الدولارات لشراء لوحة تافهة، فكأنهم عمّروا وثناً من تمرٍ، ثمّ أكلوه، وهم يتوهّمون أنهم يمارسون الإيمان بقيمة ما. قد نتفهّم المبالغة في ردّة الفعل على منطق سلطة الحداثة واستراتيجيتها، بأن تبرز مظاهر شبيهة بما كان يظهر ردّةَ فعل على الحرب العالمية من فنون عبثية وعدمية، مثل الدادائية والسريالية. لكنّ هذه الأخيرة تحديداً أنتجت تاريخاً راقياً من الرسم والشعر والمسرح، أي أنها عملت، بكلّ لامنطقيتها وشطحاتها، من داخل منطق ما، إنها تشبه عواصف عاتية تسيّر ذاتها وفق قانون داخليّ صارم لا يسمح بالعبث بعبثها. لم تصل الحضارة الغربية عبر عقود إلى هذا الدرك من سقوط المعيار والقيمة والمعنى كما نشهده في سنواتنا الماضية. وكلّما أتخمت هذه الحضارة بالتقدّم التكنولوجي والإلكتروني والفضائي، فإنها تصبح جسماً بديناً مترهّلاً يترنّح من تخمته، ويمشي فاقداً البوصلة.
الطريف في المشكلة أن ما نراه من تدهور وسقوط ولا معنى في الغرب، يستغلّه أصحاب الأيديولوجيات الشمولية الراديكالية المبنية على التفكير الأصولي المنغلق، الذي لا يصدّق أنه يجد من أهل الفكر الغربي من يدين هذه الحضارة ويشير إلى مواطن التفسّخ والانحطاط فيها، ليسارع إلى طرح نموذجه الخاص حلّاً بديلاً وشاملاً، لكنّه لا يدرك أن نقد الغرب للغرب هو من أبرز سمات هذا العقل الغربي الحديث، وأن الأوروبيين دفعوا ثمناً غالياً من تاريخهم ومجتمعاتهم ليصلوا إلى ما وصلوا إليه. وهو عقل يدرك شروخه الداخلية والمركزية، فينقدها وينقضها، ليبني من جديد بعد أن يهدم. فالهدم والبناء معاً هما من أوضح علامات الحداثة.

علاء عبد المولى
محمد علاء الدين عبد المولى
(كاتب سوري في ألمانيا)