سقط سهواً
(عبد الرحمن السلمان)
سمعتُ، مرّةً، أنّ التعبير الشائع "سقط سهواً" استخدم، أول ما استُخدم، من الصحف في بداياتها، حين كانت حروفها تطبع على الرصاص، ثم تصفّ بعناية في وعاء يجري شدُّه من أطرافه الأربعة بإحكام، قبل أن يُمرّر عليه الورق بعد إضافة الحبر، فكان يحدُث أن بعض الحروف، أو حتى السطور، تسقط من النص قبل الطباعة أو في أثنائها، وحين تلاحظ الصحيفة ذلك، متأخّرة، بعد طباعة العدد وتوزيعه، تنشر في العدد التالي توضيحاً أو تنويهاً، على هيئة اعتذار، عن الخطأ غير المقصود، لأن الناقص "سقط سهواً".
قمتُ بما يلزم من تحرٍ وبحث لأجد سندًا لهذه المعلومة، لكنني لم أفلح، ما يجعلها في مدار الشك، ولكني أعترف بأنها راقت لي، في تفسير أصل التعبير، وليس ثمّة خطيئة في أن نجد جمالاً أو جاذبية في معلومة خاطئة أو غير دقيقة، في تفسير ظاهرة أو شرحها. أليست الأساطير، التي بتنا ندرك أنّها ليست حقيقة، تنطوي على مقادير هائلة من الشاعرية وسعة الخيال، وأن الفنون والآداب، وربما حتى الفلسفة، طالما نهلت من المخزون الثري والمدهش للأساطير؟
ما أكثر ما تخرج المفردات والتعابير من السياق الذي نشأت فيه أول مرة، وتكتسب، مع الاستخدام، دلالاتٍ وشحناتٍ أخرى مختلفة عن تلك التي بدأت بها، لذا فإّن القول "سقط سهواً" بات اليوم يطلق على سلسلةٍ لا تنتهي من الاعتذارات، لا تلجأ إليها الصحف وحدها لتفسير أو تبرير ما تقع فيه من هفوات، وليست كلها غير مقصودة بالمناسبة، وإنما بات يُقال حتى في تفاصيل تتصل بحياتنا اليومية، حين ننسى دعوة أحد ما لمناسبة من المناسبات، ثم نكتشف ذلك بأنفسنا، أو يأتينا التنبيه من آخرين، أو اللوم والعتب من الشخص المعني، وويلٌ لنا إذا كان هذا الشخص ذا مقام عالٍ.
لكن ما ألحّ على بالي، أكثر من غيره، وأنا أتفكّر في هذا الأمر هو التاريخ. قيل إن المنتصر هو من يكتب التاريخ، وهذا صحيح، وقيل أيضاً إن التاريخ لم يقع، لأن المؤرّخ لم يكن هناك، فهو أشبه بشرطي المرور الذي لم يشهد الحادثة، وإنما سجّل تفاصيلها من شهادات أطرافها، وهي، عادةً، شهادات مختلفة، وحتى متضاربة، فليس مألوفًا أن يعترف المتسبّب بخطئه، والتاريخ، على أيّة حال، كُتب بعد أن بعد وقعت أحداثه، لا لحظة وقوعها. وبالتالي علينا السؤال: كم من التفاصيل سقطت سهواً عندما كُتب هذا التاريخ، خاصة وأنّه أعيدت كتابته مرّات، وعلينا تخيّل التفاصيل التي سقطت، أو أُسقطت، سهواً أو غير سهو، منه في كل مرة تعاد فيها الكتابة، ما يجملنا على القول إنّ كل ما قيل عنه سقط سهواً قد سقط سهواً بالفعل، وإنما جرى إسقاطه مع سابق الإصرار والتعّمد.
وعلى سبيل المثال فقط، قبل أكثر من أربعة أعوام، نشر الموقع الألماني "دي. دبليو" تقريراً يندرج في هذه الخانة، وليست مصادفةً أنّ عنوانه كان "الاستعمار الألماني في أفريقيا.. سقط "سهواً" من دروس التاريخ"، يشير إلى أنّ طلاباً كثيرين في ألمانيا، وربما غالبيتهم، لا يتعلمون شيئاً عن الماضي الاستعماري لبلادهم في القارّة الأفريقية، مع أنّ الألمان نفّذوا إبادة جماعية لشعب هيريرو وناما في البلاد التي أطلقت عليها القوى الأوروبية في ذلك الوقت اسم "جنوب غرب أفريقيا الألمانية"، حيث كان المسؤولون الاستعماريون الألمان يديرون دفّة الأمور في غرب أفريقيا، بين عامي 1884 و1916 في مناطق هي اليوم جمهورية توغو وأجزاء من غانا، واعتبرت الإمبراطورية الألمانية ما كان يعرف باسم "توغولاند" مستعمرة نموذجية.
استغلّ الألمان في هذه المناطق الموارد الطبيعية وحرموا سكان توغو من حقوقهم وعاقبوهم بالضرب. وفي ناميبيا ما زال الاحتفاء بقادة النضال من أجل الحرية من المستعمرين الألمان كأبطال قوميين، فيما تتجاهل الكتب المدرسية والمناهج التعليمية الألمانية بشكل شبه كامل تاريخ الاستعمار الألماني الممتد إلى 30 عاماً في أفريقيا وغرب المحيط الهادئ، وترتفع أصوات في صفوف بعض المعلمين مطالبة بتسليط الضوء على هذه الحقبة المظلمة من تاريخ بلادهم، وتمكين الأجيال الجديدة من التعرّف إلى ما شهدته من فظائع وانتهاكات.
هل يمكن الزعم هنا بأنّ هذا سقط سهواً أم أنّه أسقط بسابق الإصرار والتعمّد؟