سعد الحريري والسنّية السياسية المضْروبة

سعد الحريري والسنّية السياسية المضْروبة

03 فبراير 2022

سعد الحريري يحيي مفتي لبنان بعد صلاة عيد الفطر في بيروت (24/5/2020/الأناضول)

+ الخط -

في البكاء العَلَني شيءٌ من البلاغة. أرفع رجال الحكم من السنّة أجادوه. خلال ست عشرة سنة، بكى ثلاثة رؤساء وزارة على الملأ وأمام الشاشات. الأول فؤاد السنيورة. بكى على الدمار الذي تسبَّبت به حرب تموز 2006. نجيب ميقاتي بكى، بعد تشكيل الحكومة العتيدة، أخيراً، بكى على "معاناة الأطفال"، على "الأمهات"، على تقسيمهن "جرعات الحليب". وأخيراً، سعد الحريري، الذي بكى كثيراً. وحُفظ من بكائه وقت اختطافه في المملكة السعودية، وأخيراً، لدى إعلانه عن انسحابه (المؤقت؟) من كلّ الحياة السياسية اللبنانية.

أين بكاء الآخرين؟ أصحاب الشكيمة والسلاح؟ حسن نصر الله قام بالواجب وبكى. دموع طقوسية على الحسين في وقائع كربلاء، العائدة إلى ما لا يقلّ عن ألف وثلاثمائة عام. وبكى على أطفال اليمن. لكن، في المقابل، عندما يخطب نصر الله من خلف الشاشة العملاقة يرفع إصبعه ولا يريحها، محذِّراً، مهدِّداً. ينفخ صدره عندما يتكلم، مسنوداً إلى "مقاتلين"، يكشف عددهم ويعدِّد مزاياهم .. إلخ. ويروّج أمرا باتَ "الترنْد" العام لدى مناصريه وإعلامه وذبابه الإلكتروني. والأمر هو: "تأدَّبوا". من هم المعنيون بهذا الأمر؟ بأية آداب "يتأدّبون"؟ بآداب تقديم الطاعة لحزب الله، بلا سؤال ولا جواب. ويتناغم معه أحد نوابه في البرلمان، محمد رعد، يرفع من درجة انتفاخ الصدر، ويعلن من "القصر" الجمهوري أنّه وجماعته باتوا "من أسياد لبنان".

لا يهمّ هنا "صدق" المشاعر، ولا عفويتها. المهم أنّها تُصدَّر إلى الملأ، تعبيراً عن موقف أو حالة، يُفترض أنّها توصل رسالة ما إلى متلقّيها. بماذا تفيد هذه الرسائل؟ بأنّ الزعماء السنّة محبَطون، مثلهم مثل قاعدتهم. وميزة إحباطهم أنّه يعود إلى شعور غريب، سحيق: من أنّهم كانوا أصحاب حكم منيع، منذ قرون، وأنّ هذا الحكم انتُزع منهم. عزيز قوم ذلّ. أما دموع الزعماء الشيعة، فهي من أجل مكان بعيد: اليمن. أو تاريخ بعيد: كربلاء. بعدما كانوا على هامش الدولة والسلطة، ها هم الآن حزبهم الأقوى صاحب دويلةٍ أقوى من الدولة، وصاحب سلطة آمرة، يحقّق "الانتصار" تلو الآخر.

السنّة اللبنانيون الآن: ضعفاء بعصبيتهم، بقلّة اهتمامهم بالشأن السياسي، بعدم ارتكازهم ولا ليوم واحد على زعامة محلية، الّلهم إلا رفيق الحريري، الذي كان يقدّم نفسه على كل حال "عابرا للطوائف"

مقارنة أخرى. اغتيال رفيق الحريري، وتسلم ابنه سعد مقاليد إرثه. ما الذي أضعفَه إلى حدّ خسارته المدوية؟ يقولون طبائعه: كسول، ضَجور، عاطفي، نصف متثعلب، نصف طيب، نصف طائفي ونصف غير طائفي... ويقولون أيضاً إنّ مجرّد اغتيال والده وضعه سلفاً في موقع ضعيف. وبأنّه لم يتمكن من متابعة مشروعه الإعماري، نظراً إلى الضعف "التأسيسي" الذي قامت عليه وراثته أباه الشهيد. وبأنّ المملكة السعودية لم تَعُد أصلاً كما كانت أيام الوالد؛ معطاءة ومؤيدة من دون حدود.

لكن بالمقارنة مع ورثة آخرين، يبدو الحريري غير محظوظ بـ"الموارد البشرية" التي خلّفها له والده، أو تلك التي استعان بها هو بعد تسلّمه مقاليد الوراثة. مستشارون مهزومون، متنافسون، مقايضون، قومسينجيون، كانوا سوء سبيل، ومنهم نادر، ابن عمّته الّلزَم.

وأيضاً، قارِنْ ساعتها بين هذا الوارث ووارثين آخريْن، بعد اغتيال والديهما: وليد جنبلاط وسليمان فرنجية. الأول احتضنه محسن إبراهم وجورج حاوي، أبرع عقلين يساريين كان والده يقود ساحتهما، وكانت ساحة عامرة. أما سليمان فرنجية، فقد رعاه جدّه، سليمان، رئيس الجمهورية الأسبق، وعمّه ألبير الذي لم يقلّ عن أبيه اعتناء بابن أخيه. أي أنّ جنبلاط وفرنجية تصلب عوداهما على أسسٍ متينة، وهما في حالات اليُتم ووراثة الزعامة. أما سعد الحريري، فجذب إليه الضواري، فيما كان هو أحوج إلى الأقوياء الصادقين للعمل بمصلحة إرثه.

يمكن نسج المقارنات بعيداً. والذهاب إلى المملكة السعودية، مصدر دعم الحريري، التي هي أيضا تغيرت. كانت تصالح سورية عندما تفرض عليها مصلحتها ذلك، ثم تعاديها وتعادي كل محور الممانعة بعد الربيع اليمني، والحرب في اليمن. وجاءت التبدّلات بعد صعود ملك جديد إلى العرش، وولي عهده الذي هو أصل الحكم. والأرجح أن التغير شبه الجذري للسعودية في لبنان كان ملْءً للفراغ الذي تركه تردّد الأميركيين في المنطقة. فيما إيران ثابتة، لها ذراع إقليمية فتّاكة اسمها "الحرس الثوري"، ويقودها "مجلس ملالي"، لم يتغير حاكمها، "المرشد الأعلى"، منذ ثلاث وثلاثين سنة. ومليشياتها العربية والأفغانية ينظمها ويموّلها ويدرّبها ويؤدلجها الحرس الثوري، ومن هذه المليشيات حزب الله، يقوم على عقيدتها والتماهي التام مع مرشدها، معهما كل التقاليد والسلوكيات والعقليات الممْكن نقلها.

في الحرب الأهلية، لم تنجح المليشيات السنّية في توحيد فصائلها، مع أنّ جلّها كان ناصري الهوى

السنّة اللبنانيون الآن: ضعفاء بعصبيتهم، بقلّة اهتمامهم بالشأن السياسي، بعدم ارتكازهم ولا ليوم واحد على زعامة محلية، الّلهم إلا رفيق الحريري، الذي كان يقدّم نفسه على كل حال "عابرا للطوائف". في الحرب الأهلية، لم تنجح المليشيات السنّية في توحيد فصائلها، مع أنّ جلّها كان ناصري الهوى. وكانت النتيجة أنّها اضمحلت في نهاية هذه الحرب. ضعفاء العصبية هم السنّة، لأنّ عصبيتهم كانت دائماً امتدادية: إما هي عثمانية أو عروبية - ناصرية، أو الآن في أقصى إحباطاتهم .. إسلامية، وربما داعشية. لا سبيل لديهم غير ذلك. تكوينهم التاريخي يثقل عليهم. مثلما يثقل على بقية الطوائف، وإن بطُرقٍ وتعبيرات مختلفة. ومع ذلك، يحسبون السنّة طائفة "ميثاقية". أي طائفة لا يستوي الحكم من دون مشاركتها. مثل الطائفة الدرزية، أو المارونية أو الشيعية.

حسناً، وبماذا يشعر أبناء الطوائف "غير الميثاقية" إزاء تكريس الشيعة والسنة والموارنة والدروز طوائف لا يصحّ لبنان من دونها؟ وهي طوائف معترفٌ بها رسمياً؟ الأرثوذكسي، الكاثوليكي، السرياني (أرثوذكس وكاثوليك)، الأرمني (أرثوذكس وكاثوليك) الكلداني، الإنجيلي، العلوي... إلخ. أين هم كلّ هؤلاء على رقعة المحاصصة الضيقة؟ أين صوتهم؟ ما هي حالتهم النفسية - السياسية؟ كيف يتعاملون مع الدولة، والوظائف، المعاملات...؟ بل أين السنّة الذين لم يبكوا على ذهاب الحريري، ولا مشوا في تظاهرات التأييد له؟ وأين الشيعة الذين لا تضرب القشعريرة أبدانهم عندما يطلّ نصر الله على الشاشة؟ أو الموارنة... أو الدروز؟ أين العلمانيون؟ أين الذين ألغوا بنْد "الطائفة" على بطاقة هويتهم؟ كلّ هؤلاء، هل يمكن احتسابهم؟ وهل يمكن لعددهم أن يتفوّق على عدد أبناء الطوائف الطيعين لزعمائهم وورثتهم؟ وفي هذه الحالة، هل يمكن أن يشكلوا كتلة ناخبة، يمكن أن تصعّد أناساً جُدداً إلى البرلمان، لو كانت الانتخابات على قياس الوطن؟ أيّ انتخاباتٍ غير طائفية، قائمة على الانتماء إلى كلّ البلاد، لا فذلكات وديباجات قانونية تؤبّد لهذا الانْحباس الرهيب؟

الانتخابات المقبلة في الربيع، إذا جرت، لن تفعل شيئاً غير التجديد للاهتراء. التعبئة الطائفية في أوجها الآن

هذا طبعاً من أضغاث الأحلام. الانتخابات المقبلة في الربيع، إذا جرت، لن تفعل شيئاً غير التجديد للاهتراء. التعبئة الطائفية في أوجها الآن. حتى لو كانت المنافسة داخل الصف الواحد، الماكينة التحريضية على بقية الطوائف شغّالة. والوهم أنّ "الميثاقيات" كلّها سوف تُحتَرم لا يعني شيئاً. فهي لن ترسم برنامج الإصلاح المالي، لن تجلب الماء والكهرباء والبنزين والمازوت، لن تعيد الودائع المسروقة، لن تحقق في انفجار المرفأ .. إلخ.

و"الطائفة الغالبة" لن تغير حياة أبناء بيئتها، فإذا وضعتْ جانباً الكتلة الأكبر "اللاميثاقية" التي لن تجد من يمثلها إلّا شخصيات تابعة لهذه أو تلك من الطوائف "الميثاقية"، فماذا تكون الإضافة التي يدخلها "الأقوياء" على حياة أبناء طائفتهم؟ لا شيء. لا يستطيع أولئك الأقوياء فعل شيء أكثر من شاحنات المازوت الفاشلة. لا يستطيعون حتى إيقاف الفلتان الأمني والمخدّراتي المسْتشري في بيئتهم.. ستبقى هذه البيئة على شقائها. وشيء واحد يعزّي أبناءها، شرط وقوف أحدهم أمام ابن طائفة مغلوبة، أو منسية. اعتزازه بأنّه قوي، بقوة زعيمه، ويستطيع بالتالي أن يفلت من عقاب، من تأنيب، من نبْرة .. رغم فقره وبؤسه واعتلال صحته ونفاد بنْزينه. مثله مثل غيره من أبناء الطوائف المغلوبة، هو مواطنٌ مطْحون، لكنّه يعبد زعيمه، لأنّه استعاد "كرامته الطائفية" حتى لو كان الثمن تحطيمه.