سطوة الكاميرات
(Getty)
لم يعد الناس بحاجة لشراء كاميرات يصطحبونها معهم في نزهاتهم أو أسفارهم. ستتولى كاميرات هواتفهم الموصوفة بالذكية هذه المهمّة على خير وجه، وفي حالاتٍ كثيرة، بجودة تفوق تصوير الكاميرات. هي نعمة بالتأكيد، لكن النعمة يمكن أن تتحول إلى نقمة أيضاً في حالاتٍ عديدة. هذا ما حدث، قبل نحو عام، حين انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لشابٍ مصري في أثناء قيادته دراجة نارّية، وهو يحمل جسماً قال بعضهم إنّه قدم لجثة بشرية. اختار أحدهم أن يصوّرها بكاميرا هاتفه، وينشرها على حسابه، ملمّحاً إلى أنّ سائق الدراجة متورّط في جريمة قتل، أو شريك فيها، لتنتشر الصورة وتأويلها كانتشار النار في الهشيم كما يقال.
بعد التحرّيات، كشفت الأجهزة الأمنية الحقيقة. لم تكن تلك الساق سوى جزء من تمثال لعرض الملابس "مانيكان"، طلب مالك أحد محال الملابس الجاهزة من شركة نقل توصيله من محله إلى منطقة المقطم في القاهرة، وعلى إثر ذلك، توجه صاحب الدرّاجة النارية إلى المحل المذكور، بحكم عمله، واستلم المانيكان وفكّه ووضعه داخل كيس، حتى يتمكن من نقله على درّاجته، وقد ظهرت منه القدم التي صوّرها أحد المارّين بجواره ونشرها على "فيسبوك"، وهو أيضاً ما أكّده توضيح لصاحب المحل، نشره بعد انتشار الصورة والضجة التي رافقتها.
قال الشاب الضحية، سائق الدراجة البالغ 28 عاماً، إنّ تلك الصورة تسببت له بأذى كبير، في إشارة إلى ما ناله من تنمّر على وسائل التواصل، بسبب تأويل الصورة على غير ما هي عليه في الحقيقة، فقد صرّح لإحدى وسائل الإعلام: "حالي وقف وبيتي هيتخرب". قولٌ يُظهر سطوة الكاميرات في حياتنا الراهنة، وانتهاكها خصوصيات الناس، ما يذكّر برواية جورج أورويل (1948)، رغم أنّ أورويل قصد سطوة كاميرات السلطات بدرجة أساسية، لكنّ "المستقبل" الذي بتنا فيه ذهب إلى أبعد مما تنبأ به الكاتب في روايته، التي رسم فيها وصفاً مرعباً لعالم متسلّط شمولي يعتمد أساساً على مراقبة حركات الناس وسكناتهم بواسطة الكاميرات التي تطاردهم في الزمان والمكان. يعيش بطل الرواية، ونستون سميث، شأن جميع قرنائه، في فزع، لأنه يخضع للمراقبة، وقد يُلقى عليه القبض في أية لحظة، ويحاكم ثم ينفى بغير سابق إنذار ودون أن يعرف سبب ذلك.
يومها صوّر أورويل رعب ما يتوقع حدوثه في عام 1984: "ليس هناك انفلاتٌ من المراقبة خلال أوقات النوم أو اليقظة، أوقات العمل أو تناول الطعام في الحمّام أو غرفة النوم. إنّك لا تملك شيئاً خارج السنتيمترات المكعبات لجمجمتك. كان خطيراً أن يسمح المرء لنفسه بالظهور شارد الذهن في فضاء عمومي أو في المجال الخاص بالكاميرا المتلفزة، فأقل شيءٍ يمكن أن يتسبّب في إلحاق الضرر بك، سواء تعلّق الأمر بتشنج عضلات وجهك أو بنظرة قلقة لا واعية، أو همهمة أو كل ما يوحي أنّ المرء غير عادي أو له شيء يخفيه".
لم تعد السلطات وحدها من يحتكر هذا النوع من كاميرات المراقبة، بعد أن أصبح البشر مكشوفين أمام كاميرات الهواتف، وباتت تفاصيل حياتهم متاحةً على قواعد البيانات التي بوسع وسائل التوصل النفاذ إليها وتوظيفها لغاياتها. الإنسان الفرد مطالبٌ بكشف كل التفاصيل التي تخصّ حياته من وجوهها المختلفة، عبر البطاقات والاستمارات التي عليه تعبئتها بالبيانات التفصيلية في البنك والمستشفى والمطار ومكان العمل، وكل ذلك بات مبرّراً ومقبولاً ومفهوماً، لا بل وشاعرياً أيضاً بواسطة تلك الكلمة الجميلة: الشفافية، التي سخر منها ميلان كونديرا، وهو يُلاحظ أنّ الفرد مطالبٌ بكشف كل التفاصيل التي تخصّ حياته من وجوهها المختلفة، فيما شؤون الحكومات مكتومةٌ وعصيّةٌ على الكشف، وليس بالوسع مساءلة هذه الحكومات عن الطرق التي تدير بها الأمور، ولا أوجه تصرفها بالمال العام. الحكومات تعرف كل شيء عن كل فرد، فيما الفردُ لا يعرف شيئاً عن الحكومات.
كاتب آخر تصوّر أن يأتي يوم يعيش فيه الناس في "بيت من الزجاج"، حيث يكون كل ما يجري فيه تحت أعين الجميع، ويرى الناس كل ما يقوم به أصحاب البيت: كيف يأكلون ويشربون، وكيف ينامون، تُصبح فيه حيواتهم منتهكةً في أدقّ خصوصياتها وأشدّها. ها نحن فعلاً بتنا في بيوتٍ من زجاج.