سذاجة اعتذاريي الانقلاب في تونس

سذاجة اعتذاريي الانقلاب في تونس

30 يوليو 2021
+ الخط -

ما يجري في تونس انقلاب مكتمل الأركان، حتى الآن. ولا يخالف هذا تكييفه أنه مسعى إلى التأسيس لـ"ديكتاتورية دستورية"، كما كانت أشارت وثيقة رئاسية سرّية تمَّ تسريبها في مايو/ أيار الماضي، فالتعدّي على الدستور والاستحواذ على الحكم، سواء بالقوة أم بالخداع والمراوغة، أمران يدخلان في تعريف الانقلاب. ولا ينبغي التوهم أننا أمام نزاع صلاحياتٍ بين مؤسستي الرئاسة والبرلمان، ولا حتى أمام خلافٍ بشأن طبيعة النظام السياسي التونسي الذي يريده الرئيس قيس سعيّد رئاسياً، في حين أنه في الأصل برلمانيٌّ، انتهى به الأمر مختلطاً. القضية أعمق من ذلك وأخطر. ما يجري هو استكمال لحلقات وأد روح التغيير والديمقراطية في المنطقة العربية، وهو يأتي في سياق إقليميٍ تُهَنْدِسُهُ دول عربية تتزعم معسكر الثورات المضادّة.

هذه هي الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن تكييفنا المشهد التونسي الراهن، وأي انجرار إلى التبريرات التي يقدّمها التيار الداعم للانقلاب، مثل عدم كفاءة عمل مؤسستيِّ البرلمان والحكومة، وتدهور الأوضاع الشعبية المعيشية، وتصاعد الإصابات بفيروس كورونا، تغدو وقوعاً في شرك التشتيت الذي نصبه هؤلاء. وللأسف، فينا كثيرون ممن لا يتردّدون، سفهاً وجهالة، في أن يكونوا اعتذاريين عن الطغاة والمستبدّين والتسويغ لهم. أيضاً، أي تساوق مع المزاعم التي تحاول تصوير الأمر على أنه صراع علماني – إسلامي، أو اختزال الأمر في أخطاء التيارات الإسلامية، تكتيكياً واستراتيجياً، في سيرورة عملها السياسي، والحديث هنا عن حركة النهضة تحديداً، يغدو نوعاً من الإسفاف والتواطؤ، بل وخوضاً لمعركةٍ ضد عدو مُتَخَيَّل يريد معسكر الثورات المضادة أن يجعله موضوع التناطح، في حين يخنق هو ما تبقى من روحية تتوق إلى التغيير الديمقراطي عربياً.

نجح معسكر الثورات المضادّة في النفاذ إلى مهد الثورات العربية وأملها في تجربة ديمقراطية ناجحة، مستغلاً بعض هفواتها وهناتها وأخطائها

لا أريد أن أسترسل كثيراً في تفاصيل الانقلاب ومقدماته وحيثياته وحيله، ولا في مزاعم سعيّد عن خطورة الأوضاع واضطراره إلى التدخل لإنقاذ البلاد، ولا حتى عن كذب استناده إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، فقد قيل وكتب الكثير في ذلك، وتمَّ تفنيده. الحقيقة هنا واحدة، ما فعله سعيّد هو سطو على السلطة، بدعم من دول عربية، وتحديداً من الإمارات ومصر والسعودية. لم يكن سعيّد، منذ توليه الرئاسة عام 2019، طرفاً محايداً في النزاع والشقاق السياسي الذي تعاني منه تونس، وجعل منه أحد مبرّرات انقلابه. هو خصم منذ اليوم الأول. لم يكن حكماً بين السلطات، مترفّعاً عن التجاذبات السياسية والحزبية، بل كان مسعّراً لنيرانها، صابّاً الزيت على ألسنة لهبها، وعنصراً مخرّباً لإيجاد أي توافقات وطنية، ومعطّلاً لتعزيز الضمانات الدستورية لتحقيق استقرار سياسي.

ما لا يفهمه بعض السطحيين الذي خرجوا يحتفلون بانقلاب سعيّد، ظانّين أنه يمكن أن يكون المنقذ المنتظر، أن الرجل لا يملك مشروعاً سياسياً، ولا رؤية، ولا برنامجاً. هو سياسي شعبوي بامتياز، لا يقل سوءاً عن الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. حكم الأخير دولة عظيمة، من حيث الإمكانات ورسوخ المؤسسات والقوة. ومع ذلك كاد أن يودي بها. صحيحٌ أن "المؤسسة الحاكمة" تمكّنت في المحصلة من لجم نزواته وجموحه المنفلت، ولكن ذلك لم يمنع خدوشاً حادّة ألحقها بالديمقراطية الأميركية، وانقساما مجتمعياً عَمَّقَهُ، وأضراراً كارثية، اقتصادياً وصحياً واستراتيجياً، ترتّبت على سنوات رئاسته الأربع. وبعد قرابة ثمانية أشهر من نهاية رئاسته، ما زالت الولايات المتحدة تترنّح منها، وما زال التوتر المجتمعي والحزبي يتصاعد ويتسع، إلى درجة أن تصبح المطاعيم ضد كورونا وارتداء الكمّامات الطبية عنواناً للهوية الحزبية والسياسية والإيديولوجية. أما ثالثة الأثافي، فهي بقاء سطوته على الحزب الجمهوري وعلى عشرات الملايين من الأميركيين، بمعنى أن الولايات المتحدة لم تشهد بعد نهاية الحقبة الترامبية، هذا إذا كانت ستنتهي فعلاً.

سارع إسلاميون كثيرون مهووسون بجلد الذات إلى تحميل "النهضة" المسؤولية الحصرية عن الانقلاب

هذا حال الدولة الأعظم، ذات المنظومة القيمية والديمقراطية والمؤسّساتية الراسخة، فكيف سيكون حال تونس تحت رئيس شعبوي، نجح فيما فشل فيه ترامب، منصّباً نفسه مصدراً للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، مع أنه لا يملك خبرةً في الحكم، ولا يملك رؤية ولا ومشروعاً، ولا حتى برنامجاً لإدارة الدولة وتسيير شؤونها؟ المفارقة هنا أن بعض السذّج، تونسياً وعربياً، ممن يتعاطفون مع الخطاب الخشبيِّ المُتَكَلَّفِ المُتَقَعِّرِ للرجل، يعجزون عن استيعاب أنه ليست الديمقراطية التونسية وحدها التي فشلت في التصدّي لكثير من أزمات مجتمعها ومعضلاته وطموحاته، بل إنك لا تكاد تجد دولةً عربيةً واحدة ناجحة. وإذا كان هذا هو الحال، فلماذا لا يكون الجواب انقلاباً على كل تجربة فاشلة، كما في مصر مثلاً، التي وقع فيها انقلاب عسكري دموي، ومع ذلك هي دولة فاشلة اليوم؟ إذن، المسألة ليست مرتبطةً بنجاح تجربةٍ أو فشلها، بقدر ما أنها مرتبطة بنظام الحكم فيها، ديمقراطيًا كان أم دكتاتوريًا، فإذا كانت تتوسّل الأولى فلا مناص من وأدها، وذلك حفاظاً على زيف "الاستثناء العربي" المتنافر، حسب زعمهم، مع الطبيعة والثقافة العربيتين.

لا شك أن التجربة الديمقراطية التونسية في مهدها عانت من العوار، وهذا مفهوم، فللأسف لا يوجد تراث خبراتي يُبنى عليه، ولا يوجد سياق عربي يستفاد منه. هذا لا ينفي أخطاء، بل وخطايا، ارتكبها فاعلون كثيرون في فضاء التجربة التونسية. ولكن حصر كل الرزايا والعثرات بهم تعسّف في الحكم، وقد يكون داخلاً في سياق التواطؤ. ثمَّة من لم يتوقف عن التآمر، داخلياً وخارجياً، على ثورة الياسمين، مهد الثورات العربية منذ أكثر من عقد. كانت ثمَّة هَنْدَسَة للفوضى في البلاد، بما في ذلك تمكين مهرجين وتسويقهم في البرلمان، من مخلفات نظام زين العابدين بن علي، لتكره الناس بالديمقراطية. وعلى الرغم من أن حركة النهضة، وهي الحزب الأول في عدد المقاعد في البرلمان الحالي، لم يعط فرصة تشكيل الحكومة، ودخل في مساومات وتوافقات كثيرة مع قوى حزبية علمانية أخرى، من خلفياتٍ شتى، إلا أن هناك من يصرّ على تصوير الأمر وكأنه صراع إسلامي – علماني، وعلى أنه فشلٌ جديد في الحكم لما يوصف بـ"الإسلام السياسي".

موقف الأحزاب والقوى السياسية التونسية ضعيف، وموقف القوى النقابية والمدنية كمن يمسك العصا من المنتصف، والموقف الشعبي مرتبك

ليس الإسلاميون وحدهم هم من يرفضون انقلاب سعيّد، بل الغالبية، وإن لم يكن ذلك بالوضوح المطلوب، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني وأساتذة القانون والخبراء الدستوريون وقضاة كثيرون، إلا من بعض مرتزقة معسكر الثورات المضادة. ومع ذلك، سارع إسلاميون كثيرون مهووسون بجلد الذات إلى تحميل "النهضة" المسؤولية الحصرية عن الانقلاب. لا شك أن "النهضة" تتحمّل جزءاً كبيراً من الفشل، ولكن المنظومة السياسية والحزبية التي أنتجتها الثورة شريكة في ذلك أيضاً. ولا تملك إلا أن تقف مشدوهاً أمام بعض الإسلاميين الذين كانوا يتغنون بالأمس بـ"حكمة" النهضة ومرونتها في التعامل مع "الدولة العميقة" في تونس، وجنوحها نحو السلم معها، وبناء التوافقات مع خصومها السياسيين والإيديولوجيين، مقارنةً بتجربة الإخوان المسلمين في مصر، وهم يقرّعونها اليوم ويعتبرونها مسؤولة عن كل ما يجري بذريعة تهاونها في الحسم! إنهم التيار نفسه الذي يتغنّى بقوة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزمه، وحركة حماس في قطاع غزة، من دون أن يدركوا اختلاف السياقات وحيثيات كل تجربة، وإذا ما فشلت واحدةٌ من هاتين التجربتين سيكون مصيرُهما الجلد، أيضاً، من هؤلاء.

باختصار، ما يجري في تونس ليس خلافاً على تفسير الدستور، وانقلاباً على أسس التوازن المفترض بين السلطات فقط، وهو قطعاً ليس محاولةً لإنقاذ البلاد من فشل آليات الحكم القائمة، ولا حتى لسحق الإسلاميين فحسب، بل إنه يندرج في سياق إجهاض أحلام العرب بالديمقراطية والحرية والكرامة والمواطنة والإنسانية. للأسف، نجح معسكر الثورات المضادّة في النفاذ إلى مهد الثورات العربية وأملها في تجربة ديمقراطية ناجحة، مستغلاً بعض هفواتها وهناتها وأخطائها، ومستعيناً برئيسٍ مسكونٍ بنرجسيةٍ لا مقوّمات لها، أخذ تونس رهينة، وعطّل مسار تقدمها، فانتهى الأمر إلى ردّة ديمقراطية جديدة. هل هذا يعني أن الستار قد أسدل على المشهد؟ ليس بالضرورة، فمع أن موقف المؤسّستين، العسكرية والأمنية، يبدو متساوقاً مع هذه الردّة، والموقف الغربي غامض، وموقف الأحزاب والقوى السياسية التونسية ضعيف، وموقف القوى النقابية والمدنية كمن يمسك العصا من المنتصف، والموقف الشعبي مرتبك، إلا أنه لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأوضاع، مع ضرورة الاعتراف بأن سعيّد يبدو في وضع أقوى من معارضيه.