سد النهضة .. سؤالان وإجابتان

سد النهضة .. سؤالان وإجابتان

17 يوليو 2021
+ الخط -

هل كنّا، نحن خصوم نظام الانقلاب العسكري الحاكم في مصر، مع جهوده الدبلوماسية المضنية في مقارعة إثيوبيا للوصول إلى تفاهمٍ مرضٍ يتعلق بملء سد النهضة وتشغيله؟ الجواب: نعم. .. هل كنّا، نحن خصوم النظام نفسه، نتوقّع نجاح جهوده تلك، والتي صار فشلها ظاهراً؟ الجواب: لا. .. ليس من أحجيةٍ في حالنا هذا، فمصر هي الأصل والموضوع، وعندما يكون شعبُها وأمنها مهدديْن في شأنٍ بالغ الحيوية، مياه النيل، فإنك بالضرورة مع أي جهدٍ من أيٍّ كان يعمل على ردّ المصيبة هذه. ولذلك، مع التسليم بأن فعلاً جسيماً ارتكبه الرئيس عبد الفتاح السيسي في توقيعه إعلان المبادئ، عام 2015، مع السودان وإثيوبيا، فإن أداء الدبلوماسية المصرية في مفاوضة إثيوبيا، تالياً، على ما بدا فيها من اختلالاتٍ، وعلى ما تُؤاخَذ عليه في غير أمر، لم يكن ممكناً إلا مساندتها، وتفهّم ما تتعرّض له من إكراهات، وإدراك ما يحيط بها من مصاعب ومتاعب، تتّصل بحسابات قوىً إقليمية وكبرى. ويصدُر هذا الموقف من بديهية أنك في اصطفافك هذا تكون مع مصر، وليس مع النظام الحاكم، أكان اسم رئيسه عبد الفتاح السيسي أو محمد مرسي أو حتى عدلي منصور. وأياً يكن الحال، لسنا، في أمرِنا هذا، نأخذ بما تَعالَمَ به علينا كتبة السلطة والمطبّلون لفشلها المتراكم، عن الفرق بين الدولة والحكم، بين معارضة النظام ومخاصمة الوطن.

أمّا لماذا كنّا على يقينٍ، أو مقادير غزيرة منه، بأن مجهود النظام ودبلوماسيته في ملف السد سينتهي إلى الفشل، فذلك، أبداً، ليس لأننا كنا نتمنّى هذا أو شيئاً منه، بُغضاً للنظام في القاهرة. وإنما لأن المشهد، في مختلف تفاصيله، وعلى غير صعيدٍ ومستوى، ظل يُنبئ بأن إثيوبيا ستمضي في الذي دبّرته وخطّطته، بالكيفية التي هندستها، وأقامت الشروط الفنية واللوجستية لها، في تشييد السد وتعيين الحصص المائية لملئه وتشغيله، وبالجداول الزمنية المبرمجة، من دون أي اكتراثٍ بذعر مصر من أضرارٍ مؤكّدة عليها، ستنجُم عن المخطط الإثيوبي الذي صار واضحاً أنه يتجاوز إنتاج الحاجة إلى الطاقة الكهربائية. ولا يحتاج الحصيف، الناظر في أحوال مصر، في راهنها الذي ينهض على مجاورة المكابرة والهشاشة معاً، إلى العرّافات وقارئات الفنجان، ليخلُص إلى الماثل قدّام العيون، سيما مع إخفاق المحاولة اليائسة والخائبة في مجلس الأمن أخيراً، وقد أوفدت إثيوبيا إلى مداولاتها التي دلّت على تعقيد الوضع (بتعبير الوزير المصري، سامح شكري، محقاً)، وزير الرّي فيها، تأكيداً على قناعتها بتجنيب التدخلات السياسية في الملف، وحصره بما هو تقني وفنّي.

صحيحٌ أن منظومة الانقلاب في مصر تمأسست، واستقرّت الحقائق التي صنعتها في الدولة والمجتمع، ومن العسير نقضها. وصحيحٌ أن لهذه المنظومة نجاحاتٍ في التعمير وبناء مشروعاتٍ وتشغيل معامل ومصانع، وفي تحسين بنياتٍ تحتية، وفي تطوير بعض الخدمات. ولكن هذا كله، وغيره، لم تعدم إنجازَ مثله دكتاتورياتٌ كثيرة في غير بلد، أحدثت نهوضا في مرافق غير قليلة، وأحرزت مؤشّرات تقدّم، في الصحة والتعليم العالي وفي صناعاتٍ غير قليلة و... ويُؤتى هنا على هذه البديهية للقول إنها لا تعني نجاحاً تلقائياً في ملفاتٍ وطنيةٍ كبرى، من وزن حماية حقوق مصر المائية، ذلك أن تفريطاً مريعاً لا يتوقف النظام في مصر عن اقترافه بحقوقٍ وحرياتٍ عامة للإنسان المصري يُجيز الزعم، هنا، إن فشلاً ثقيل المقادير سيُحرزه هذا النظام، وهو يخوض مفاوضاته مع إثيوبيا، سيما وأن دراية هذا النظام بحقائق العالم وخرائط المصالح فيه ورهانات الدول الكبرى فيه وحساباتها شديدة الضعف، بل ومحزنة، بدليل الابتهاج بتصريحاتٍ لفظيةٍ من هذه العاصمة وتلك عن وجوب حلّ في أزمة السد الإثيوبي يحفظ حقوق كل الأطراف، وبدليل عدم التلويح الجدّي بخياراتٍ حربيةٍ عملياتيةٍ مدروسة. وكذا فقر المخيلة لدى هذا النظام، وهو يحاول مع الصين وروسيا أخذَهما إلى جانبه، بكيفياتٍ كاريكاتوريةٍ أحيانا (تخصيص السيسي خطاباً تلفزيونياً لتهنئة الحزب الشيوعي الصيني بمئويته مثلاً). وفي البال أن الراحل، محمد حسنين هيكل، ظلّ يرمي الإخوان المسلمين، بعد خلعهم من السلطة خصوصاً، بأنهم لم يحتكّوا بالعالم، ولا يدركون تفاصيله. وظل يخلع على السيسي بأنه صاحب رؤية. وهذه سنوات إدارة الأخير (ومخابراته ومعاونيه) قضية سد النهضة تؤكّد نقصاناً حادّاً في إدراكه العالم ومتغيّراته وتعقيداته، وكذا افتقاره إلى رؤيةٍ استراتيجيةٍ وطنيةٍ توظّف ممكنات الداخل وتقوّيها وتحميها في مواجهة تحدّيات الخارج..

إذن، كان الفشل محسوماً، ولم نكن نتمنّاه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.