سؤال وجودي في متتاليات "الدكتور نازل"

17 فبراير 2025
+ الخط -

نقرأ في المتتاليات القصصية "الدكتور نازل" (دار الشروق، القاهرة، 2024) للكويتي طالب الرفاعي، 23 قصة، يجمعها نسيج واحد وفكرة مضمرة تتمحور حول النزول القيمي في حياتنا، نزول يختفي ويتجلى ويتلوّن في مختلف الفضاءات والأروقة المرتبطة بالعمل الخاص والوظيفة العمومية، على شاكلة ما قرأناه في كتاب "نظام التفاهة" الذي وصل إلى خلاصة جوهرية، أن التافهين انتصروا علينا. يقدم الرفاعي أفكاره المثيرة على هيئة متتاليات قصصية، أطلق عليها عنواناً دالّاً، جمع بين صفةٍ تشير إلى رفعة علمية (الدكتور) واسم يحمل سمة الهبوط (نازل)، تم استقاؤه من مفارقات الحياة وألاعيبها. سيرى القارئ هذا النزول متسللا إلى مختلف أوصال المجموعة، سواء عن طريق الأفعال، أو حتى عن طريق تصغير الاسم نفسه (نازل، نزول، نزولي) الذي يوجد في جميع صفحات المتوالية، وإنْ بأدوار مختلفة، ولكنها جميعها تشير إلى هذا النزول بطريقة ساخرة، تذكّرنا بالأدب الساخر الذي يمكن تلمّسه عند الإيطالي إيتالو كالفينو والتركي عزيز نيسين وغيرهما، وهي لوحات سردية، تمتلك كماً من الحركة، يؤهّلها لأن تسجّل مسلسلاً تلفزيونياً، فقط لو وجدت السيناريست والمخرج المناسبين. يُظهر نازل، في القصة الأولى، شطارته حتى على الأميركان، حين استطاع أن يحصل منهم على لقب دكتور في الطب من جامعة في ولاية أميركية، رغم أنه مفصول من جامعة بلده الحكومية، لكنه بسبب ثراء والده استطاع أن يجد من يعرض عليه قائمة بالكلية التي يرغب فيها (تشبه قائمة الطعام) "تريد كلية الهندسة أو الاقتصاد أو الآداب؟ اختر أي كلية".

يبحر نازل، ويتنقل بحرية في وظائف تعكس خريطة الحياة العامة، من طبيب إلى بائع بخور إلى رئيس تحرير ثم معلم ثم مسؤول كبير في شركة ضخمة، وهو في ذلك كله يمارس الدور القيادي نفسه، المبني على قوة المال وشراء الذمم. نجد أيضا في المتواليات ظهور الكاتب طالب الرفاعي مراقباً محايداً، ليوثق، في نهاية كل قصة، حدثاً مشابهاً سجلته الصحف المحلية. مثلا: "جريدة القبس الكويتية- محليات- 10 مايو 2018: يأتي اعتصام عدد من طلبة المرحلة الثانوية في وزارة التربية أمام مجلس الأمة، احتجاجا على قرارات مكافحة الغش الرادعة والإجراءات الإدارية المصاحبة لذلك"، أو من خلال موقف حي لشخصية اجتماعية معروفة، أو كاتب عرفه الرفاعي حقيقة في بحر الحياة، مثل رجل الأعمال محمد الشارخ والروائي إسماعيل فهد إسماعيل، والكاتب السوري حنا مينا: "دارت القهوة والأحاديث، وشاركنا الجلسة الصديق الفنان المسرحي أسعد فضّة، قبل أن نودّع حنا قال لي بنبرة هادئة، وقد تبخّر غضبه: انتبه، يا طالب، عدوك من عمل عملك".

تأخذ هذه الطريقة التي تجمع بين التخييل والتوثيق بعداً ابتكارياً في القصة القصيرة، بعد أن عرفناها روائيا، مثل روايات المصري صنع الله إبراهيم الذي يستعين، في معظم رواياته، بقصاصات الصحف. هذا الابتكار الذي سارت عليه المجموعة اعتبره القاص العراقي محمد خضير "فتحا جديدا في كتابة القصة القصيرة العربية، وإضافة موفّقة إلى إنتاج كاتبها الأدبي، فقد حققت نصوصها خطوة بنائية مهمّة في تقنية الميتا سرد"، كما سجل خضير في ظهر الغلاف.

وكما وثقت المجموعة أحوال الدكتور نازل المبنية على الاستثمار الاستغلالي الذي ينتصر للرداءة والنزول من أجل المركز الاجتماعي والمال، حتى أنه يطرد الموظفين الذين يتلمّس فيهم الأمانة والصدق، نجده في قصة "رقابة" يشير، بمكر سردي، إلى أن سبب تأخّر منح المتتالية القصصية "الدكتور نازل" الرقم المعياري، وجود أسماء حقيقية، قبل أن يُفرج عنها لاحقا، بعد أن "استبدلت جميع الأسماء الحقيقية الصريحة بنعت الدكتور نازل" (ص 155). ... ليمضي في لعبته السردية حتى أقصاها، مازجا الحقيقي بالمتخيّل، ولأننا بصدد عمل أدبي، فإن الحقيقي يكون موظفا وخادما للمتخيّل الذي يقوم عليه أي عمل أدبي وفني.

صدرت لطالب الرفاعي عدة أعمال روائية وقصصية وحاز جوائز ذات بعد عربي ودولي، وترجمت أعماله إلى مختلف اللغات، وهو مبتكر ومدير مبادرة مهمّة للقصة القصيرة العربية، جائزة الملتقى للقصة العربية، ذات البعد العصامي، ومع الوقت أصبحت أهم جائزة عربية للقصة على الإطلاق.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي