روسيا وعدوّها الصيني

13 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 06:40 (توقيت القدس)
+ الخط -

استمع إلى المقال:

أن تفترض المخابرات الروسية الصين عدواً رئيساً، في مسودة وثيقة سرّية تسرّبت إلى الصحف الغربية أخيراً، لا يجوز أن يكون صادماً، إلا لمن كان يصدّق أن ثمّة تحالفاً حقيقياً بين موسكو وبكين. الصحيح أن كلّ واحدة من الدولتَين كانت تحاول ما استطاعت استعمال الأخرى لتحقيق مصالحها، وما كشفته الوثيقة المذكورة تؤكّد ما كان مسكوتاً عنه.

تقول الوثيقة (يبدو أنها كُتبت أواخر عام 2023 أو أوائل 2024) إن الصين تشكّل تهديداً خطيراً للأمن الروسي، إذ تحاول تجنيد جواسيس روس، والحصول على تقنيات عسكرية روسية حسّاسة، والتجسّس على عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا للتعرّف على الأسلحة المستخدمة في الحرب. وإذا أضفنا هذه الوثيقة إلى أخرى تسرّبت للصحف البريطانية في مارس/ آذار من العام الماضي (2024)، أظهرت أن الجيش الروسي تدرّب على غزو صيني محتمل لأراضي بلاده، سيكون جليّاً أن ما كان يبدو في العلن علاقةً وطيدةً بين البلدَين، إنما هو في الحقيقة تعاون حذر ليس إلا، ويمكن أن تغيّره الظروف والمعطيات.

من حيث المبدأ، ينفي تعامل أحد الطرفَين مع الآخر على أساس الحذر الأمني الشديد فكرة "التحالف" بينهما. وبالفعل ظلّت الصين تتمسّك بنفي تلك الفكرة في خطابها الرسمي على مدار السنوات الماضية، التي شهدت تقارب البلدَين اقتصادياً وتعاونهما عسكرياً، في وقتٍ كانت الولايات المتحدة، وحلفاؤها في الغرب، يركّزون في وصف التقارب بين موسكو وبكين حلفاً جديداً، مستعيدين خطاب الحرب الباردة وذكرياتها، خصوصاً لأن ذلك التقارب حدث عقب بدء روسيا حربها على أوكرانيا، فبدا كما لو أن الصين تسندها لمواجهة العقوبات التي تعرّضت لها، وهدّدت اقتصادها، بفعل توقّف أوروبا عن استيراد الغاز الروسي، إذ ارتفع التبادل التجاري بين روسيا والصين من نحو 140 مليار دولار في عام 2021، إلى أكثر من 244 مليار دولار في 2024، منها نحو 129 مليار دولار من الصادرات الروسية، التي يشكل الغاز الطبيعي والنفط والفحم الجزء الأكبر منها، في مقابل نحو 115 مليار دولار من الصادرات الصينية، التي تتنوّع بين السيارات والجرّارات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والمعدّات الصناعية.

تبدو الصين منسجمةً مع نفسها إذاً، فالعلاقة مع روسيا بالنسبة إليها تمثّل تعاوناً استراتيجياً، وليس تحالفاً، كما صرّح قادة البلاد غير مرّة خلال تلك الفترة التي كُتبت فيها تلك الوثائق السرّية المسرّبة، حتى وهم يزورون موسكو، ولهذا لم يكن ثمّة تناقض من وجهة نظر الصين حين قالت إنها تقف على الحياد في شأن الحرب الروسية مع أوكرانيا، وتدعو إلى حلّها عبر تسوية سياسية، بينما هي تلقي طوق نجاة للاقتصاد الروسي من خلال ابتياع الغاز والتعاون الاقتصادي الوثيق. أمّا روسيا فهي التي كانت تسعى لإقناع الصين بإعلان مثل ذلك التحالف كي تحتمي به في مواجهتها مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) إبّان إدارة جو بايدن، بينما كانت لا تشعر بالثقة في نيات بكين، ولا في تطلعاتها المستقبلية، إلى الحدّ الذي تصفها فيه، بحسب تلك الوثائق، بـ"العدوّ".

رفض الصين سياسة الأحلاف في العلن يماثل رفضها لها في الخفاء

وهكذا، سعت الصين إلى استغلال ظروف روسيا وحاجتها إلى إيجاد أسواق بديلة لصادراتها النفطية، في ضوء حربها مع أوكرانيا، لتحصل على الغاز الروسي بأسعار تفضيلية، لكن من دون أن تساندها سياسياً في صدامها مع الغرب، خصوصاً أن الصين تخشى على علاقاتها التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي، وتسعى إلى عدم إغضاب دول مثل ألمانيا وفرنسا إذا اتخذت موقفاً سياسياً مناصراً لموسكو، على ما تقتضيه صيغة الأحلاف.

ليس ذلك فقط، بل الأكثر أهميةً من عدم إغضاب الشركاء التجاريين في الاتحاد الأوروبي، حرص الصين على الموازنة بين استغلال الظرف الدولي لتعزيز خططها في التحوّل إلى قطب عالمي مؤثّر، ومراعاة أن لا يؤدّي ذلك إلى تمكين روسيا من أن تصير هي الأخرى قطباً عالمياً، أو أن تتيح لها المجال لمشاركتها في هذه القطبية الجديدة، فتصبح منافساً استراتيجياً لنفوذ الصين المستقبلي، خصوصاً في محيطها الذي تُعدّ روسيا جزءاً منه. وهذا يعكس تعاظم الطموحات الصينية في السنوات الماضية، بعد أن كانت الصين منذ 2015 تكتفي بالدوران في فلك السياسة الخارجية الروسية، رغم أنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وهو ما يعكسه تطابق المواقف الدولية بين البلدَين، بين منتصف التسعينيّات وعام 2015 الذي يشكّل نقطة فاصلةً في طموحات الصين الخارجية، ففيه بدأ تنفيذ مبادرة الحزام والطريق عملياً، وهي التي تعدّ أداة الصين الاقتصادية لتحقيق نفوذ سياسي دولي يمكّنها من تبديل النظام العالمي إلى متعدّد الأقطاب.

والحال أن رفض الصين سياسة الأحلاف في العلن يماثل رفضها لها في الخفاء. هكذا يكون القلق الأمني، الذي يساور الروس حيال الصين، مبرراً كما ظهر في الوثائق المسرّبة، ويجعل القول إن تلك الوثائق حقيقية وصحيحة أقرب إلى الدقّة والمصداقية، على ما أكّدت صحيفة نيويورك تايمز، التي نشرت الوثيقة المسرّبة، قائلةً إنها عرضتها على ستّ وكالات استخبارات غربية، فأكدت جميعها صحّتها.

لكن هذا لا يعني أن تعامل الصين مع روسيا سيكون نهائياً على هذه الصورة التي اتبعتها منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ ربّما ستجد بكين نفسها محتاجةً إلى تحالف استراتيجي مع موسكو، بحسب تطوّر الأحداث في شأن الصراع التجاري مع الولايات المتحدة، الذي يعد بتقليص الأسواق أمام الصادرات الصينية، ومن ثمّ تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، في وقت تتحسّن العلاقات الروسية الأميركية، وتتراجع حاجة موسكو إلى الاحتماء بقوة الصين العسكرية والسياسية. كلّ شيء سيكون وارداً في شأن طبيعة العلاقات الروسية والصينية، ما دام كلّ واحد منهما حريصاً على استعمال الآخر بحسب تغيّر ظروفه وحاجاته.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.