روسيا الماكدونالدز والتاريخ

روسيا الماكدونالدز والتاريخ

18 يونيو 2022
+ الخط -

"فكوسنو إي توتشكا" (باللغة الروسية: شهي نقطة)، هو الاسم الرسمي للسلسلة الجديدة من المطاعم التي حلّت بديلاً عن "ماكدونالدز" الأميركية في روسيا، البالغ عددها 850 فرعاً. لا تريد موسكو إطاراً غربياً لثقافتها، وفقاً للرئيس فلاديمير بوتين، لكن لا بأس باستنساخ هذا الإطار تحت اسم آخر، بعد رحيل الشركة الأميركية بموجب العقوبات الغربية على روسيا. وبهذه الخطوة، تقرّ موسكو ضمناً بنجاح الغرب جزئياً في توغّله في الثقافة المجتمعية للروس، خصوصاً مع ارتفاع نِسَب المنتمين إلى الطبقة الوسطى، مقارنة بتسعينيات فقيرة، أصبحت بعيدة للغاية عن الوجدان الروسي. التسعينيات ابتعدت، لكن الفقر موجود، وفقاً لشركة "ستاتيستا" الألمانية، التي كشفت، في تقرير لها نُشر في 15 يونيو/ حزيران الحالي، أن نسبة الفقراء في روسيا بلغت 14.3% في الربع الأول من العالم الحالي، أي نحو 20 مليون شخص تقريباً من أصل 146 مليون روسي.

لا يخفي بوتين على أحد عداوته للثقافة الغربية، خصوصاً المرتبطة بملفات الحرية والديمقراطية والحريات الفردية، لكنه، في المقابل، يدرك أن بديله من "روسيّة القيم والتقاليد" يشقّ طريقه بصعوبة في الأوساط الروسية. لم يعد الوضع يشبه حقبة الاتحاد السوفييتي، واعتبارات التطور التقني عبر الإنترنت يجدر أن تؤخذ بعين الاعتبار. ومن الطبيعي أن يُحدث هذا الأمر صدام أجيال بين مولود في زمن الاتحاد الراحل ومتوثّب للانطلاق نحو الغرب. وكابن مدينة سانت بطرسبرغ، يعلم بوتين أن الانفكاك التامّ عن الثقافة الغربية في روسيا يوازي انفصال الكرملين عن مواطنيه، لذلك فإن تمسّكه بلهجة "الخوف على المصير الروسي" في غزو أوكرانيا، يشكّل منفذاً ناجحاً له حالياً، لأن "لا صوت يعلو على صوت البندقية". غير أن الأمر لا يتعلق بهذه المرحلة، ولا بأربعة أشهر من المعارك في أوكرانيا، بل بكيف سيتمكّن الرئيس الروسي من الحفاظ على مستوىً عالٍ من الاستنفار الخطابي تجاه الروس، من دون أن يصيبهم الملل جرّاء التأخّر في الانتهاء من الغزو؟

الطبيعة الإنسانية تكره المراوحة، وتبحث عن الحسم، خسرت أو ربحت. والقتال الذي لا يحصل فيه تقدّم على جبهة ما فترة طويلة يتحوّل إلى مأزق، بسبب الاستنزاف، أو بسبب كلفته العالية بشرياً. وسيدفع ذلك إلى انخفاض الاهتمام العالمي بالغزو الروسي. قد يرى بوتين ذلك فرصة له، لكنها أيضاً قد تكون فخّاً. في المقابل، العودة السريعة ثلاثة قرون إلى الوراء صيغة لا تصلح في عالمنا الحالي. الرئيس الروسي يشدّد على الاستلهام من بطرس الأكبر، باني روسيا الحديثة، ويعتبره مثالاً للتوسّع الروسي العسكري غرباً. وفي هذا النوع من التفكير السياسي خطورة كبرى، لأن البلدان والسياسيين الذين يخرجون من اللغة السياسية المعاصرة، أياً كانت، ويستنجدون بالتاريخ والدين والعقائد الجامدة، سيخسرون. وبوتين الذي كان "سيد البراغماتية"، لأسبابٍ شتّى، تحوّل فجأة إلى شخصٍ يحاول تنفيذ أفكار علكها الزمن.

وعدا أن بطرس الأكبر كان شغوفاً بالثقافة الأوروبية، وسانت بطرسبرغ شاهدة على ذلك، فإن التماس جزئيةٍ واحدةٍ من التاريخ لا ينفع، فحين تأسّست العاصمة الأوكرانية كييف منذ آلاف السنين كانت روسيا غابات كثيفة. الشعب الروسي انطلق من كييف. الباقي تفاصيل تاريخية متنازع عليها. الأهم أنه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وريثما يتأسّس نظام جديد، لا يمكن لبوتين الربط بين عامي 1700 و2022 بهذه السهولة وتجاهل مفترقات أساسية نشأت بين التاريخين. لعلّ أهمها الثورة الفرنسية وإفرازاتها التي دفعت فلاديمير لينين إلى صياغة فكر سياسي سمح بنشوء روسيا ما بعد القيصرية. ليس التاريخ سوى حصيلة مكثفة لأحداث عشوائية، تستنبط مساراً مستقبلياً نتيجة لذلك. وإذا كان بوتين يدوّن تاريخاً جديداً، فإنه سيكون إضافة حديثة أخرى لتاريخٍ مختلفٍ عما يصبو إليه.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".