روحها المثخنة بالجراح

10 فبراير 2025

(صفوان داحول)

+ الخط -

تحاول المواطنة المسكونة بالهم العام أن تفرح من أجل أهل غزّة، ترقبُهم من خلف الشاشة، يقطعون الطريق سيراً على الأقدام المتعبة إلى بيوتهم المهدّمة، يتعالون على أحزانهم برحيل الأحبّة، يتحدّثون بحماسة أمام الكاميرات عن تصميمهم على البقاء في أرضهم، رغم القتل والدمار وضيق ذات اليد، لا يتخلّون عن الأمل بغدٍ أقل سواداً، ويحلمون بخلاصٍ يجعل حياة صغارهم أقل صعوبة.

تتابع لقاءات الأسرى المحرّرين بذويهم بعد سنوات طوال من الأسر في سجون المحتل، تتوقّف عند أحدهم وهو يتذوّق حبّة برتقال بتلذّذ، ويقول، بفرحٍ طفوليٍّ، إنه حُرمَها 17 عاماً، وآخر يشكر زوجته الأصيلة التي فارقها والجنين في بطنها ليلتقيه شابّاً يافعاً مبتهجاً بلقاء والدٍ لم يشاهده عمراً بأكمله إلا من خلف القضبان.

تُحاول من كل قلبها الفرح من أجل أبناء سورية، وهم ينالون الحرية بعد عقودٍ من الظلم والهوان، يملأون الشوارع والميادين، يغنّون ويرقصون ويهتفون ويرفعون أعلام الثورة مردّدين: "ارفع راسك فوق... إنت سوري حرّ". تشاهد بعيونٍ دامعةٍ لقطات استقبال العائدين منهم بالعراضات الشامية والزغاريد ودموع الأمهات اللواتي أثقلهن وجع الفقد والغياب، غير أنها تدرك أن الفرح مهارةٌ افتقدها أبناء هذه البلاد المنكوبة الذين طبّعوا مع الحزن والألم والقهر، وتعرف أن الفرح حين يأتينا من باب التغيير يكون منقوصاً مطعّماً بالغصّة التي تستقرّ في الحلق، جرّاء الأعداد الهائلة للقتلى والمفقودين والمصابين بعاهاتٍ دائمةٍ ومجهولي المصير واليتامى المتروكين لمصيرهم الغامض.

تستمع إلى تصريحات ترامب الرعناء، وهو يتحدّث عن امتلاك غزّة وتهجير أهلها بحجّة إعادة إعمارها، يتوهّم نفسه إلهاً وحاكماً بأمره، يعبث بمصائر الشعوب والأفراد على هواه، بجرّة قلم، معبّراً عن تسلط وعنجهية واستخفاف وانحياز سافر للكيان المغتصب.

تغوص عميقاً في الحزن وخيبة الأمل، يتملكها الإحساس المضني بالعجز والحيرة والارتباك، وهي ترى الشباب والشابات في بلدها وقد سيطر عليهم الهمُّ المعيشي، بسبب الغرق في مستنقع البطالة وانعدام الفرص وضبابية المستقبل والشعور باليأس واللاجدوى في بلادٍ جارت عليهم ومنعت عنهم أبسط حقوقهم في فرص عمل وتحقق وأمان وظيفي، وجعلت من شهاداتهم الجامعية التي تعبوا وكدّوا في سبيل تحصيلها مجرّد أوراق ثبوتية، وصوراً معلقة على الجدران لا تفضي إلى فرص عمل كريم يغنيهم ذلّ السؤال، فلا يجدون خياراً غير مضمون النتائج سوى الهجّ إلى بلاد الله الواسعة، في هجرة محفوفة بالخطر وانعدام احتمالات النجاح، ولا تستغرب من ارتفاع نسبة الجريمة وانتشار العنف والانحراف ردّة فعل متوقعة لظروف معيشية ضاغطة.

تتساءل من عمق رعبها إلى متى ستظل هذه البلاد في مهبّ التحولات السياسية، ولماذا على الأفراد أن يدفعوا هذه الأثمان الباهظة، وهل سيأتي عليها يوم تتحقق فيه العدالة الاجتماعية، وينعم الأفراد فيها بالاستقرار والأمان والرّخاء، غير أنها تخشى التفكير في الإجابة، تحاول جاهدة الوصول إلى مرحلة عدم الاكتراث، وأن تضع رأسها بين الرؤوس، حيث الاستسلام المريح الذي قد يزيح عن جملتها العصبية هذا القلق والتوتر، تنتابها مشاعر الحسد والغيرة تجاه أولئك الرماديين غير المبالين بغيرهم، الساعين لخلاصهم الشخصي، ومن بعدهم الطوفان.

تُقرّع نفسها، لأنها لا تستطيع أن تكون مثلهم، بحيادهم البارد وأنانيتهم المطلقة، لأنها، ببساطة، مثل الأغلبية، مواطنة واعية تقوم بواجباتها وتسدّد التزاماتها الضريبية، وتتوقّع من حكومة بلدها أن تعمل بجدّية أكبر على توفير سبل عيش كريم من فرص عمل وتأمين صحي وضمان اجتماعي لأجيال مهدّدة بالضياع!

تُحاول صاحبتنا استدراج الفرح، رغم كل ذلك المرار، غير أن الحزن يستقرّ عميقاً، ويصبح توأماً سيامياً لروحها المثخنة بالجراح.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.