رواية لأليف شفق

رواية لأليف شفق

25 يناير 2021
+ الخط -

في كل مرةٍ أرتاد فيها مكتبة، يكون سؤالي الأول عن روايات جديدة لأليف شفق. أتتبع الكاتبة التركية بشغف كبير، ولا أنكر افتتاني بعوالمها الروائية، ذات السوية العالية، الصاخبة الضاجّة بالحياة والتنوع، مثل "لقيطة إسطنبول" و"بنات حواء الثلاث" و"شرف" و"قصر القمل"، وروايتها التاريخية "الفتى المتيم والمعلم". كما أحرص على متابعة حواراتها الصحافية والمتلفزة، وأتحمس لأفكارها العميقة التي تنمّ عن ثقافة عميقة وذكاء حاد، ومواقف مبدئية وأخلاقية تعبّر عن حسٍّ إنساني عال بمعاناة البشر، حيث تنحاز للضعفاء، وترنو إلى الحرية، وتنتصر لضحايا القمع والاستبداد، ما عرّضها أكثر من مرّة للملاحقة القانونية. 
فرحت حين سلّمني البائع رواية أليف شفق "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" (ترجمة محمد درويش، دار الآداب، بيروت، 2020). وعلى الرغم من اقتنائي الرواية منذ أكثر من شهر، إلا أنني تردّدت في الشروع في قراءتها، ليقيني أن ثمّة فخا جديدا تنصبه شفق بمكر وحنكة. حصل ما توقعته، فأجهزت على الرواية ذات الخمسمائة صفحة في جلسة واحدة. انقطعت فيها عن العالم، أطفأت الموبايل، واستعنت بموسيقى كلاسيكية، وأفسحت لنفسي الفضاء كاملا للانفصال عن اللحظة الراهنة، وللتسكّع مع شخصيات الرواية في شوارع إسطنبول الخلفية، تلك الشوارع المعتمة الحزينة التي ينبغي أن لا يراها السياح الأجانب، لتكشف الرواية أن ثمة إسطنبول موازية، حافلة بالقهر والظلم والفقر والحرمان والتشرد. ولتثبت شفق من جديد براعة غير اعتيادية في السرد الروائي المتماسك، والمتدفق بسلاسة مجرى نهر. تتقن، بشكل استثنائي، استدراج القارئ، بحيث يصعب عليه وضع الكتاب جانبا ولو لحظات.
تبدأ الرواية من بقايا نشاطٍ لا يتجاوز مدته عشر دقائق وبضع ثوان، في دماغ جثة مومس، مقتولة بوحشية على أيدي متشدّدين، ملقاة في حاوية قمامة، فتعيد بناء حياة كاملة تبدأ منذ عام 1947، تاريخ ميلاد ليلى، البنت المستضعفة، القادمة من مدينة فان التاريخية النائية، تعرّضت للاغتصاب من عمها الأكبر، حين يعتدي على براءتها وهي في السادسة من عمرها، ويواصل أفعاله الخسيسة حتى بلوغها السادسة عشرة، وحين تحمل وتجهض تواجه والدها بالحقيقة المرّة التي ينكرها بشدة، ويجد الحل في تزويجها، سترا للفضيحة، عاجزا عن مواجهة شقيقه الذي ينجو بفعلته، فيما تدفع ضحيته الثمن الباهظ. تهرب ليلى متجهة إلى إسطنبول، حيث وهْم الخلاص، لتبدأ رحلة الشقاء في مدينة كبيرة قاسية موحشة بلا قلب. تتعرّض للاحتيال والسرقة والامتهان، وتنخرط في عوالم مواخير الدعارة طيلة حياتها. تتفرّع من حياة ليلى حكايات أربع شخصياتٍ لنساء بظروف مشابهة أصبحن صديقاتها، حين جمعتهن المأساة والظلم. جميلة وحميراء هوليوود وزينب القزمة ذات الأصول العربية ونالان المتحولة جنسيا، إضافة إلى صديق طفولتها وحبها الأول، سنان، المخرّب الذي عجز عن حمايتها من بطش العائلة التي أنكرتها، ورفضت استلام جثتها، لأنها جلبت لهم العار والمذلّة والسمعة السيئة. تشكل كل حكاية لأصدقائها الخمسة عالما منفصلا، سرعان ما يشتبك مع الحكاية الرئيسية، ليشكل فضاء روائيا باهرا. 
تنتهي فصول الرواية عام 1990، تاريخ مقتل ليلى، ونجاح أصدقائها في نبش قبرها الحكومي المقرّر، بحسب القانون، في مقبرة الغرباء، فيتمكّنون من إلقاء الجثة في مياه البوسفور كما رغبت دوما، ما يذكّر برواية خورخي أمادو "كانكان العوام الذي مات مرّتين". تنوّه شفق، في نهاية الرواية، إلى أن الشخصيات جميعها وهمية، على الرغم من الفضاء الواقعي للرواية الذي يتطرّق إلى الأحداث السياسية في العالم والتحولات الكبرى التي عصفت بتركيا. .. تفاصيل كثيرة مدهشة، انطوت عليها رواية "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب"، لم تخل من حسٍّ تأمليٍّ وجودي عميق في معنى الحياة وجدواها. .. رواية موجعة ممتعة محفزة ومؤثرة بكل المقاييس.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.