رقصة ترامب الأخيرة

رقصة ترامب الأخيرة

19 نوفمبر 2020
+ الخط -

أثارت الانتخابات الرئاسية الأميركية، وما تزال، في المشهد السياسي الأميركي والعالمي، سجالاً كثيراً، مرتبطاً بالقوانين المنظمة للانتخابات، ومرتبطاً، في الوقت نفسه، بالنظام الديمقراطي الأميركي. وقد ارتفعت حدَّة النقاش، بعد رفض الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، النتائج التي أعلنت فوز المرشح الديمقراطي، جو بايدن. وإذا كانت وسائل الإعلام وقنواته الكبرى في العالم تهتم بتسليط الضوء على هذه الانتخابات وتحليل مختلف نتائجها وأبعادها، فإن هذا الأمر يرتبط بالدور والمكانة اللذين تحتلهما الولايات المتحدة الأميركية في عالمٍ غير متوازن، وفي إطار علاقاتٍ دوليةٍ تحكمها شرائع تستند إلى المؤسسات والمواثيق التي رتَّب قواعِد عَملها الأقوياء.
يقف المُتابِع للتعليقات والسجالات التي واكبت العملية الانتخابية، إلى حين إعلان نتائجها الأولية، على نوعية المواقف الغريبة والمُتسرِّعة التي عَبَّر عنها ترامب ومناصروه في موضوع النتائج. وإذا كان من المؤكّد أن تحفظاتٍ عديدة عَبَّر عنها متنافسون على الرئاسيات الأميركية قبله، فإن مواقف هذا الأخير تجاوزت ردود الفعل المعتادة في الانتخابات الرئاسية السابقة. وجاء مفاجئاً موقف ترامب الغاضب من النتائج، وكذا رقصاته التي تواترت بصورة مثيرة ومُسلية في سنوات ولايته، وجديدها رقصته الفرحة والغاضبة أمام مناصريه الرافضين نتائج الانتخابات، حيث ذهب إلى الساحة التي اجتمعوا فيها وسط واشنطن، واتجه نحوهم مُحيِّياً، مبتسماً ثم مُقطِّباً وراقصاً في الآن نفسه، يحرّك يديه وجسمه على إيقاع شعاراتهم المندّدة بتزوير الانتخابات وسرقة الأصوات. يحصل هذا المشهد في أميركا التي ترعى الديمقراطيات وحقوق الإنسان في العالم، وتنصب مؤسسات الحكامة من أجل انتخابات سليمة ومتوافق عليها بشأن القوانين التي تحكمها في الشرق والغرب!

نسي ترامب، وهو يعلن عن تزوير في التصويت في الانتخابات الرئاسية أن أميركا موطن المؤسسات والتقاليد الديمقراطية.

ويذكّر تمايل ترامب راقصاً ومبتسماً، برقصته الأخرى، قبل الأولى بأيام، في أحد ملاعب الغولف، حيث حرص على إعلان موقفه المندّد بنتائج الانتخابات، وأعلن وهو يصوِّب كرته ضارباً قرارَه المتعلق بفتح معركةٍ قانونيةٍ ضد مزوّري التصويت والنتائج بطريقة استعراضية متغطرسة.. لقد نسي، وهو يعلن ذلك داخل الملعب، أن أميركا موطن المؤسسات والتقاليد الديمقراطية. ولم يتردّد في الإشارة إلى أن سبب الأخطاء الانتخابية الحاصلة في بعض الولايات يعود إلى نتائج بعض الانتخابات بالبريد، وأن أخطاء أخرى حصلت تسببت فيها الأجهزة المُوظَّفة في عمليات الإحصاء والترتيب.. فأصبحنا أمام مشهد وخطاب لا علاقة لهما بالتجارب والتقاليد الديمقراطية الأميركية، يعلن فيهما الرئيس ومناصروه أن الانتخابات مُزوَّرة، وأنها أكثر الانتخابات احتيالاً ويطالبون بلزوم إعادة الفرز!

تتكرَّر مواقف ترامب المندِّدة بفوز بايدن، إذ يعتبر أن نتائج الرئاسيات المُعْلَنَة تخص إعلاماً منخرطاً في تقديم نتائج مزوَّرة

انخرط محامو ترامب في عمليات متابعة ما أعلنه من تزوير للانتخابات الرئاسية، في محاكم الولايات التي أعلن فساد نتائجها، (أكثر من 24 دعوى قضائية في سبع ولايات). ولأن أغلب ما أعلنه ترامب لم يجد في المحاكم الصدى الذي كان يحلم به، فقد بدأت تصدر عنه تغريداتٌ مُتواصِلة في صفحته في الفضاءات الرقمية، بأن النتائج المعلنة تخص الجهات الإعلامية التي نشرتها ولا تخصه، فأصبحنا أمام جملةٍ من التغريدات والمواقف المتناقضة.. وتذكّر تصريحاته الجديدة هذه برقصته في 15 سبتمبر/ أيلول الماضي في البيت الأبيض، في أثناء رئاسته حفل توقيع معاهدة التطبيع، التي جمعت بينه وبين وزيري خارجية الإمارات عبد الله بن زايد والبحرين عبد اللطيف الزياني ورئيس حكومة الكيان الصهيوني نتنياهو، فقد وقف بينهم متحدثاً بروح تشير إلى كثير من التعالي الكاشف عن كثير من مظاهر سياساته المتناقضة في المشرق العربي، وبدا الرجل وكأنه لا يريد أن تنتهي ولايته بسلام.

انخرط محامو ترامب في عمليات متابعة ما أعلنه من تزوير للانتخابات الرئاسية فرفعوا 24 دعوى في سبع ولايات

ما هي حسابات الرئيس المنتهية ولايته؟ ذهبت التحليلات والتعليقات على موقفه غير الواضح، مواقفه وادِّعاءاته التي صدرت أحكام رفضها في المحاكم، إلى الحديث عن أمورٍ غريبة، تتعلق بمرحلة ما بعد تسليمه النتائج المُعْلَنة، إلا أننا لا نريد أن نستبق الأحداث، فالرجل ما يفتأ يُغرِّد، وأنصاره ما زالوا يتظاهرون ويحملون لافتات تُعلن فوزه في الانتخابات. يواصل تغريداته الرافضة والمندِّدة بالنتائج، والمعطِّلة، في الآن نفسه، مسلسل الإعداد لترتيبات نقل السلطة للرئيس الجديد المنتخب يوم 20 يناير/ كانون الثاني 2021.
يواصل ترامب تغريداته، وقد انتهت ولايته، إنه لا يضيف جديداً إلى المواقف التي رسمت سنوات رئاسته، وهو يذكِّرنا بما قاله في خطاب تنصيبه رئيساً يوم 20 يناير 2017، حيث لوَّح بما أَطْلِق عليه "ردّ الاعتبار السياسي والاقتصادي للرجل المنسي". إنه عندما يَحْتَجّ ويُنَدِّد ويَسْعَى إلى الفوز بولاية ثانية، فإنه لا يريد أكثر من رَدِّ الاعتبار للرجل المنسي! تتكرَّر مواقف ترامب المندِّدة بفوز بايدن، يعتبر أن نتائج الرئاسيات المُعْلَنَة تخص إعلاماً منخرطاً في تقديم نتائج مزوَّرة. وتتواصل مظاهرات أتباعه في بعض الشوارع داخل بعض الولايات حاملة صوره وشِعارات فوزه. وقد صدرت مواقف متناقضة من بعض قيادة الحزب الجمهوري، عاكِسةً مكانة ترامب داخل الحزب. وتحدث عقلاء كثيرون من الجمهوريين والديمقراطيين، داعين إلى ضرورة وَقْف ترامب تغريداته المتواصلة في التَّنْديد بالنتائج، بحكم أنها تطعن في العمق في النظام الانتخابي وفي الديمقراطية الأميركية.
وعندما نستبعد الطَّابع المشهدي والنفسي المرتبط بشخصية ترامب رجل الأعمال ورجل الدولة، والمرتبط في الآن نفسه، بطبيعة الديمقراطية الأميركية، نجدنا أمام مُعضِلة تتعلق بالديمقراطية وأنظمتها الانتخابية في عالم متغيِّر، فقد أصبح مؤكّداً اليوم أن الديمقراطية، سواء في المجتمعات في طور التَّمَرُّس بأساليبها في الحكم، أو في الديمقراطيات التي تُنْعَتُ بالعريقة، تحتاج دائماً إلى مراجعاتٍ في أدواتها وآلياتها في العمل، وكذلك في الغايات التي يرسمها لها الفاعلون السياسيون، تحتاج دائماً إلى إعادة فحص ومراجعة. وما وقع في الديمقراطية الفرنسية قبل انتخاب الرئيس ماكرون، وما يقع اليوم في أميركا بعد فوز جو بايدن، يؤكّدان هذا.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".