رفض القتل استنكافاً عن عبودية معاصرة

رفض القتل استنكافاً عن عبودية معاصرة

09 مايو 2021
+ الخط -

تاريخيا، كانت الأهلية للتجنيد من حيث الوضع الاجتماعي نقيضا للعبودية، ففي معظم المجتمعات كانت الفروسيّة حكرا على الطبقات العليا، وكانت العبودية العسكرية نادرةً نسبيا مقارنة بالعبودية المنزلية والعبودية المنتجة. كان بإمكان رجال تلك الطبقات، المعنيين مباشرة بالحفاظ على ثرواتهم ومواقعهم الاجتماعية، أن يوفّروا الأسلحة، ويموّلوا الحروب، حين كانت الدولة تعجز عن ذلك. امتلاك الدولة تلك القدرة ترافق مع الانتقال من الأرستقراطية إلى الملكية، فكفّت المكانة والطبقة الاجتماعيتان عن تحديد الأهلية للتجنيد، وصار بإمكان الدولة فرض التجنيد على من تشاء من رعاياها، وأن تُجبرهم على فعل أي شيء، حتى زجّ أنفسهم إلى الموت، من دون أن تعجز يوميا عن توفير الأيديولوجيا المناسبة للحشد والتجييش. حدّدت الدولة التي احتكرت قرار الحرب والسلم المهام القتالية في جبهات المعارك، ومدد الوجود فيها، ومتى يعود المجندون إلى منازلهم أو تحتفظ بهم إلى أجل غير مسمّى، حتى ضاقت الحدود بين مجنّدين في ملكية عامة للدولة وعبيد الملكيات الشخصية، كان ذلك قبل أن يحدُث تطابقٌ تام بين العبودية والتجنيد مع ممارسة العثمانيين نظام "دوشيرمه"، الذي أسرت بموجبه أطفال الشعوب السلافية في البلقان، وجنّدت قسما كبيرا منهم في فيلق "الإنكشارية". وبعد أن صار العبيد جنودا، سيصبح الجنود عبيدا في نظام التجنيد الإجباري.

لا يزال نظام التجنيد الإجباري يثير جدلا في العالم. هناك من يعارضه وهناك من يؤيده

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تسارعت وتيرة نظام التجنيد الإجباري. وتخلت عنه تدريجيا، بعد الحرب العالمية الثانية، مزيد من الدول، مثل: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والهند، وباكستان، واعتمدت نظام الخدمة الطوعية. وخفّضت دول أخرى، في أوروبا خصوصا، على الرغم من احتفاظها بنظام التجنيد الإجباري، أعداد الجنود ومدد الخدمة. أما في الدول الشمولية والتسلطية التي جعلت أقاليمها أقلّ استقرارا، تضخمت أعداد المجندين إجباريا، لتشكل أغلبية عديد الجيش.

لا يزال نظام التجنيد الإجباري يثير جدلا في العالم. هناك من يعارضه، وكاتب هذه السطور واحد منهم، بوصفه نوعا من عبودية معاصرة، وانتهاكا لحقّ الفرد الأساسي في الحياة. أما مؤيدوه فيصرّون على ربطه بالمواطنة، ويرون في إلغائه تهديدا للسلامة العامة، وتعطيلا للنظام العام، وأن ذلك يناقض الواجب الأخلاقي الواقع على المواطنين تجاه وطنهم، ويرفضون أية مقارنة بين المجنّدين في نظام التجنيد الاجباري والعبيد في نظام الرق، فهناك، برأيهم، فارق جوهري بين أن تكون عبدا في ملكية خاصة وأن تكون مملوكا للدولة لتحقيق مصلحة عامة، فهؤلاء الجنود، على الرغم من حرّيتهم المقيّدة، لا يمكن شراؤهم وبيعهم، وهم يتلقون رواتب، وأن الحرّية ستكون خرافةً طالما كانت احتياجات الكلّ تفوق احتياجات الأقلية، ويرون في النظام الذي يتمسّكون به كل ما ينسجم مع مبدأ المساواة بانطباقه على جميع الأفراد، مؤكّدين المكانة العالية التي يحظى بها أولئك الجنود، المستعدّون للتضحية في سبيل الوطن، مقارنةً بالمكانة المتدنية التي منحتها المجتمعات للعبيد.

حتى بعد اتفاقية السلام بين إرتيريا وإثيوبيا عام 2018، لم يغادر المجنّدون ثكناتهم، ولم يعودوا إلى بيوتهم

ولكن، إذا كانت الغاية من العقد الاجتماعي الذي تجسّده الدولة الحفاظ على حقّ الحياة، فإن من واجب الدولة اتخاذ كل التدابير التي من شأنها أن تحفظ حياة مواطنيها، لا أن تفرض عليهم التضحية بحياتهم. وبالتالي، الإصرار على الربط بين المواطنة والوطنية، من جهة، وبين التجنيد الإجباري والتضحية بالنفس من جهة أخرى، هو ربط تعسّفي لا معنى له. وإن كان صحيحا أن المجند إجباريا لا يمكن بيعه وشراؤه، ويتلقى راتبا، فهذا لا ينفي صفة العبودية عن وضعيته تلك، ففي روما القديمة تلقى بعض العبيد أجورا، وكان في وسعهم أن يشتروا حرّيتهم بين حين وآخر. هناك أيضا، لم تمنع المكانة العالية الإنسان من أن يبقى عبدا، إذ كان من بين العبيد يونانيون متعلمون تمتعوا بتقديرٍ عالٍ في المجتمع، وعاشوا بشكلٍ أفضل من فقراء أوروبا، وكادت "الإنكشارية" أن تسيطر بشكل كامل على السلطنة العثمانية. المكانة العالية للجنود تتعارض وحرمانهم من بعض حقوقهم المدنية خلال فترة خدمتهم العسكرية، كما أنها تفترض مساواةً، غير متحققة، مع الجنود المتطوّعين الذين يتلقون رواتب أعلى، وعتادا أفضل، وإجازات أكثر. ألا يكفي أن الفرد مضطرٌ في ظل نظام التجنيد الإجباري لتنفيذ الأوامر تحت التهديد بالعنف؟ لو استثنينا جميع جوانب الاستعباد الأخرى في هذا النظام، وأبقيْنا على هذه الخاصية وحدها فهو كاف، ربما، ليتبيّن أن التجنيد الإجباري ما هو إلا مؤسسة عبودية جديدة.

بحسب القانون الدولي، التجنيد الإلزامي ممارسة لسيادة الدولة، إلا أن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أكّدت، منذ تسعينيات القرن الماضي، غير مرة، على "حق الاستنكاف الضميري" للأفراد الذين يرفضون الخدمة العسكرية على أساس حرية الفكر أو الضمير أو الدين، والذي رأته متضمنا في تفسيرها المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، واستجابت معظم الدول الديمقراطية التي تعمل بنظام التجنيد الاجباري لهذه القرارات، فأنشأت خدمةً مدنيةً بديلةً ذات طابع غير عقابي. معظم الدول العربية رفضت منح هذا الحق لمواطنيها، واستمرّت في فرض عقوباتٍ تراوحت بين السجن والإعدام على المستنكفين والفارّين من خدمتهم العسكرية، وتذرّعت أمام لجنة حقوق الإنسان بأن مفهوم الاستنكاف الضميري غير قابل للتطبيق على أراضيها، ولكنها تسمح لمن لا يرغبون في أداء الخدمة العسكرية بدفع مبلغ معين مقابل ذلك. هل على العبد أن يشكر السيد لمنحه فرصة، قد لا تسنح دائما، لشراء حريته؟

سعت الأرستقراطية العسكرية العربية إلى بناء الجيوش عقائدياً، لا فنياً، لتثبيت هزائمها المتتالية في الحروب

في ظلّ الدول الاستبدادية، تبدو حجج المدافعين عن نظام التجنيد الإجباري أكثر تهافتا، ألم يؤُل التجنيد الإجباري في إرتيريا إلى سخرة مدى الحياة؟ حتى بعد اتفاقية السلام بين إرتيريا وإثيوبيا عام 2018، لم يغادر المجنّدون ثكناتهم، ولم يعودوا إلى بيوتهم، ولا يزال الديكتاتور أسياس أفورقي غير مستعدٍ لتسريح عشرات الآلاف من الرجال المدرّبين على حمل السلاح؛ القادرين على مقاومة نظامه الاستبدادي، في ظل عدم القدرة على توفير وظائف بديلة لهم. في الدول العربية، فرضت الأرستقراطية العسكرية، منذ الاستقلال، نظام التجنيد الإجباري، وسعت إلى بناء الجيوش عقائديا، لا فنيا، لتثبيت هزائمها المتتالية في ساحات الحروب. فشل هذا النظام، وكانت عسكرة المجتمع والدولة أداة لاحتكار الدولة والسيطرة على المجتمع، واستنزف السلاح ميزانيات تلك الدول وثرواتها وكان فتاكا حين يوجّه إلى صدور المواطنين، لا خلال استعراضه أمام الأعداء.

تعتمد أقوى دول عالم اليوم نظام التجنيد الطوعي. وبعد أن أطاح الأميركيون وهْما تمثل في استحالة زراعة قطنٍ وإنتاجه من دون عبيد، تأكّدوا أن بإمكان الولايات المتحدة ربح الحرب بالاعتماد على المتطوعين المختارين، لا على المجنّدين المجبرين. ولطالما كان العبيد أقلّ رغبة في الدفاع عن دولةٍ لم تعاملهم بوصفهم مواطنين، بل كانوا أكثر غبطةً بسقوط أسيادهم .. ألا يفسّر هذا بعضا من هزائمنا؟ مع معاركنا العبثية، وحروبنا الأهلية المدمّرة، بات الهروب من الخدمة العسكرية سمة عصرنا، إما استجابة لغريزة الحياة أو رفضا للقتل تحت إلحاح آليات غير مسبوقة لإنتاج "الآخر". لكن ذلك بقي غالبا استجابةً غريزيةً لم تتحوّل إلى موقف منظّم. تحتفل منظمات وحركات عديدة في العالم بالخامس عشر من شهر مايو/ أيار الجاري يوما دوليا للاستنكاف الضميري، لعلّها فرصة للانضمام والمشاركة.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.