رفاهية الموت
نشرت سيدة فلسطينية تنحدر من غزّة وتقيم في إسطنبول حواراً دار بينها وبين جارتها التركية، وذلك خلال قضائهما معاً ليلة في العراء تحسّباً لهزّات ارتدادية بعد الزلزال الذي ضرب المدينة أخيراً، حيث اعتقدت الجارة التركية، حسب قولها، أن الموت قصفاً بالصواريخ في غزّة أخفّ وقعاً من الموت بسبب الزلازل، وكأنها تغبط أهل غزّة على طريقة موتهم اليومية والمستمرّة على مرأى ومسمع من العالم.
وفي غزّة أيضاً، كان هناك تجمّعٌ لنساءٍ ثكالى غبطن إحداهن لأنها استطاعت الحصول على جثّة زوجها كاملة، من دون أن تتحوّل إلى أشلاء يصعُب جمعها، أو تحترق وتصبح مشوّهة المعالم، بل إنها أكثر حظّاً من اللواتي ما زال أزواجهن تحت الأنقاض. ولذلك، عليها، مع عِظم مصيبتها، أن تعرف أنها محظوظة بنَيْلِها هذه الرفاهية من الموت لشريك حياتها.
تُدهشك إلى درجة الوجع هذه المقارنات بين طرق الموت وأشكاله. والواقع أنني، منذ بداية هذه المقتلة، سألتُ نفسي سؤالاً بدأت أجد إجابات كثيرة له، ولكن تباعاً، لا دفعة واحدة، وهو: ماذا لو ضرب زلزالٌ غزّة؟ هل كنّا سنتألم ونعاني مثلما حدث منذ بداية المقتلة؟
والإجابات التي توصّلت إليها جميعها كانت تفيد بأن تدابير القدر أقلّ وطأة من تدابير البشر. فإذا ما جاء الزلزال، فأنت تعرف أن البشر كلّهم سواسية أمام سطوته، وأنك قد تموت مرّة واحدة وينتهي كل شيء، وأن الظالم والمظلوم، والحاكم والمحكوم، سيصبحون في لحظةٍ في عداد الأموات. ولكن ذلك لا يحدُث أبداً، وأنت تعاني وتُستنزف، بل وتموت كل لحظة، وفي كلّ مرة تموت بطريقة جديدة، منذ قرّر العالم أن يقف مُتفرّجاً على موتك الآني أو الآتي لا محالة.
وثّق أحد الجنود الساديين سعادته بعودته إلى بيته بعد جولة قتال في غزّة، لأنه قتل سبعة من المدنيين دفعة واحدة من دون أن يطرف له جفن، وأنه فعل ذلك بسعادة لا توصف. فيما أعربت مجنّدة، المنحدرة من أصل مغولي، عن حزنها لأنها عادت إلى بيتها في إجازة بعد أن قتلت بدم بارد أفراد عائلة كاملة؛ حيث دخلت إلى بيتهم وقتلتهم بسلاحها. ولكن سعادتها، حسب وصفها، لم تكتمل لأنه لم يكن بينهم رضيع.
حين تتابع طرق الموت في غزّة، وكيف يموت الناس هناك في كل مرّة بطريقة أبشع من السابقة، وكيف يتفنّن القاتل في تجريب جميع أنواع الأسلحة في هذه البقعة الصغيرة، تتأكّد أن الحرب وويلاتها أشدّ ضراوة من الزلازل التي تحدُث فجأة، ثم يهبّ كل العالم لينجد البقعة المنكوبة من دون حسابات أو اعتبارات. أمّا في هذه المقتلة، فأنت تقف مشدوهاً أمام توقّف عجلة الإسعاف والإنقاذ، بل وإصرار الجاني على تدمير كل وسيلةٍ قد تنقذ الأبرياء، مثل شروعه في قصف الآلات الثقيلة القديمة المتهالكة التي تستخدم في رفع الأنقاض، وتُسهم، كيفما اتفق، في انتشال بعض الأحياء من تحتها؛ وكأنّ خطّته تلك توصل رسالة إلى البؤساء: "لا مفرّ لكم من الموت".
وعلينا أن نتخيّل صورة أبٍ يحاول أن يزيل الأنقاض بأظافره أو بمعول بدائي صغير في محاولةٍ يائسةٍ للبحث عن ناجين من أفراد عائلته، وحين يدبّ اليأس في قلبه، يصرخ بصوت يغمر الفضاء وبكل ما يشعر به من ألم: "هل هناك من يسمعني؟".
الإجابة التي توصّلتُ إليها أن الموت في غزّة قد يكون له وجه من الرفاهية، كما أجمعت تلك النساء الثكالى فعلاً، وأن الجميع ينتظر دوره لكي يموت، لكنه لا يعرف كيف سيحدُث ذلك. وقبل أن يحدث، يموت تلك الميتة المركّبة من لحظات الترقّب والانتظار والخوف من المجهول. وليس هناك زلزال أقوى من هذه الميتة التي لا تعرف متى ستأتي، فتقتلك ألف مرّة قبل أن تضربك أخيراً الضربة القاضية، وتصبح رقماً يضاف إلى قائمةٍ لا تنتهي، وقد تكون من قائمة الموتى المحظوظين.