رغيد الططري... أو ليل سورية الطويل
رغيد الططري يتحدّث إلى الزميل أنس أزرق في تلفزيون العربي
عندما تجول بين أيٍّ من مواضع الخراب المهول الذي أحدثه نظام الأسد في عمليات القصف العنيف التي شنّها على أحياء وأريافٍ وبلداتٍ ومخيّماتٍ سورية، لا بد سيجوسُ في خاطرك سؤالٌ مُلغزٌ عن السبب الذي يجعل هذا النظام يلجأ إلى قوة نيرانٍ فادحةٍ في "التعامل" الأمني (العسكري) مع من كان يسمّيهم "إرهابيين مسلّحين"، فيما كان في مقدورِه أن يحسم معاركه مع هؤلاء، أو حتى يُجهز عليهم، من دون كل هذه القوة العارية، وبلا حاجةٍ إلى التدمير الأقصى. كما سؤالٌ مثيلٌ عن السبب الذي كان يجعل أجهزة حافظ الأسد تُسرِف في أحكامها بالإعدام وسنوات السجن والمؤبّدات على عُزّل، لم يرتكبوا أفعالاً منظورةً ترجّ النظام أو تُضعفه. وحتى لو صحّت تلك الاتهامات الفلكلورية المُلفّقة، فقد كان في الوُسع "معاقبة" هؤلاء بعسفٍ أقل. ... يضجّ فيك سؤالٌ كهذا، وأنت تتابع حديث الطيّار السوري، رغيد الطّطري (أحسُده على اسمه!)، في مقابلة الزميل أنس أزرق معه على شاشة تلفزيون العربي، عن 43 عاماً أمضاها في عدّة سجونٍ في بلاده. تُحاول أن تقع على إجابةٍ عن سؤالك ذاك، عن "الخطر" المُريع الذي ظلّ يشكّله هذا الرجل على أمن الأسديْن (وسورية إذا أردت؟)، فاستدعى بقاءَه وراء القضبان نحو ثلثي عمره ( مواليد 1954). لن تفلح في جهدك هذا. ربما تستدعي إلى بالك أن حافظ الأسد أراد سورية دولة متوحّشةً، بتعبير الفرنسي ميشال سورا في كتابه عنها. وربما تأتي إلى خواطرك بنماذج حكم في بلاد عربية وأجنبية زاولت مقادير من التوحّش ضد من عدّتهم خصومها من مواطنيها، قد يُسعفك تذكّرها بأنّ ليس بين القنافذ أملس، لكنك ستعجز عن "تفسير" احتجاز طيّار إلى الأبد (لم يتحرّر إلا بسقوط الأسد قبل نحو 50 يوماً)، وهو الذي كان مُسرّحاً من الجيش، ولم يرضَ بالمشاركة في ضرب حماه (قبل مذبحتها الشهيرة في فبراير/ شباط 1982)، ثم روقب، قبل أن تُزبّط له تهمه التآمر بتهريب طائرة تدريبٍ إلى الخارج.
أصاب الصديق أنس في وصفه الطّطري بأنه جبل. ولعلّي أصيبُ لو اجتهدتُ بأن الحقد وحدَه يوضح كل هذه اللاإنسانية في "معاقبة" هذا الرجل الذي أحرز لقب عميد المعتقلين السوريين، وكثيرين غيره، مثقفين وأصحاب رأي وسياسيين وحزبيين، أخذهم إلى الموت قتلاً أو إعداماً، أو أودعهم السجون سنواتٍ، وزاول عليهم كل إذلال، مدفوعاً بشهيّة الإخضاع واحتقار كرامة الإنسان. وإذا قرأتََ أو سمعتََ سِيراً وشهادات ونصوصاً أنجزها سوريون (وغير سوريين)، ممن صودرت مقاطع من شبابهم وحياتهم في المعتقلات، واستضعفهم الأسدان، الأب ونجله، قد لا ترى غير الحقد باعثاً على انتهاج الأخيريْن العنف بألوانه العديدة. والحقدُ في أعراف علم النفس يأتلف فيه البغضُ في النفس مع رغبةٍ مُضمرةٍ في الانتقام تنتظر تفريغ هذا الشعور (وهو داءٌ دفين، بحسب مختصّين) في النيْل من الخصم أو يُحسب خصماً. وما تمكّن في أهل النفوذ في "سورية الأسد" أن كل من لا يخضع لهم هو عدوّ يُضمر رغبةً في خطف سورية منهم، وبالتالي، لا تسامح أو تهاون مع أفرادٍ لا تسلّم أمخاخهم بأن سورية للأسد وأتباعِه ومواليه، وعلى كل سوري أن يكون موالياً وتابعاً، أو يُسحق بالتمويت بقذائف الطائرات الحربية والصواريخ والبراميل وغاز السارين، أو يودع في السجون، بحسب طاقة هذه السجون على الاستيعاب.
عندما انتسب رغيد الطّطري، في شبابه الأول، إلى جيش بلاده ليصير طيّاراً، ثم انتظم في دورات متخصّصة في الطيران العسكري، فاحترف مهنته هذه، كان ينتسب إلى وطنٍ ليساهم في حمايته والدفاع عنه. ثم لمّا استشعر أن ثمّة ممارساتٍ في هذا الجيش (سيّما بعد دخوله لبنان في 1976) تأخذه عن هذه المهمّة، ولما أيقن أن خيارات "القيادة" في وادٍ آخر، ولمّا علم بلجوء طيّارين زملاء له إلى الخارج (الأردن)، تعبيراً عن رفضهم أوامر لهم (أحدُهم فلسطيني اسمُه محمود ياسين رفض المشاركة في ضرب تلّ الزعتر في لبنان)، ولمّا اعترض على أن يضرب في حماه، ولمّا تشكّكوا فيه وفي نيّاته، وفي أن الذي في دماغه لا يستقيم مع الذي في أدمغة الحاكمين، كانت التهم إياها، ثم كان السجن المديد في تدمر والمزّة وصيدنايا وعدرا والسويداء وطرطوس و... .
لم يتحدّث رغيد الطّطري إلينا، نحن مشاهدي تلفزيون العربي، وإلى محاوره أنس، كما بطل، مزهوّ بما لم يفعل إبّان كان طياراً، بل كان يسرُد عن مقطعٍ في تغريبة الليل السوري الطويل. تحدّث عن حمايته ذاكرته في السجن، بتنشيطها وباختراع نظرياتٍ حسابية، وبما جعله يهزم الألم العتيد، قبل أن ينتصر في 8 ديسمبر. حماه الله وأطال عمره.