رعْد أو عن رعْد

رعْد أو عن رعْد

10 ابريل 2022
+ الخط -

وضرب رعْد في قلب تل أبيب، واستمرّ إلى يافا ليعيد قرية فلسطينية غيّر الصهاينة اسمها إلى حضن أمها الجميلة يافا، انطلق رعْد من جنين إلى جامع يافا الكبير إلى تل أبيب بثقة ابن الأرض الأصيل... مشى منتصب القامة، متحدّياً اقتلاعاً من الأرض وتغيير هويتها وتزوير تاريخ شعب، فلحقه الفلسطينيون في كلّ مكان وتوّجوه قائداً لرحلة العودة.

منذ أشهر، نشهد صعود كوكبة من شباب، تقود حلم الفلسطينيين، من دون تنسيق أو تنظيم، فالاحتلال لا يرعبهم، يعرفون أنّ المقاومة هي الطريق إلى فلسطين. وقد ظهرت عمليات "الذئاب" المنفردة، بقوة في عام 2015، ثم انحسرت، وعادت بقوة في انفجار من فوّهة بركان، تهاجم بعمق ولا تعترف بالعوائق، كأنه ماردٌ انبثق من عمق الأرض يتكاثر ويربك كلّ حسابات العدو، فلا تَنصّت أو قمع ينفع، فالتكنولوجيا قد تستطيع التجسّس ودخول البيوت، لكنها لا تستطيع دخول العقول والقلوب، فالمقاتل المنفرد يعمل بعقله وقلبه، يخطّط في صمت، ويعمل وحده، شبح وسيم يتحوّل إلى فدائي، بل إلى كتيبة فدائيين. فكيف لإسرائيل استباق عمليته؟ وكيف لسلطةٍ فلسطينية إيقافه؟ يقف الجميع مشدوها أمام قيادةٍ لا تدّعي القيادة، تمارس المقاومة من دون كلام أو تصريحات، هي ظاهرة وليست حركة جديدة، لكنها امتداد كل أشكال المقاومة الشعبية ولهبّة أيار.

هي إحدى تجليات النهوض الفلسطيني، في زمن انحسار التنظيمات الفلسطينية، والتعاون الأمني الإسرائيلي- الفلسطيني، ووهم السلطة أن شل قدرة التنظيمات على المقاومة سيقنع واشنطن أن الشعب الفلسطيني يستحق دولة، ولو ممسوخةً، على أرضه.

صعود كوكبة من شباب، تقود حلم الفلسطينيين، من دون تنسيق أو تنظيم

أصبحنا نفيق ونصحو على بوارق أمل مقاوم، فجاء برق ضياء ومن قبله، وتبعه رعد الرعد، وننتظر الأمطار والعواصف لتضرب العدو على شكل شبابٍ فلسطينيٍّ جميل، ترك أحلام المستقبل ليعود ويعيدنا إلى فلسطين. لكن يجب أن نصحو أيضاً، أن نشاهد كما في فيلم، أو في حلم، فيما يضحّي شباب في عمر الورد بحياتهم، لعلنا نفيق، هم يقومون بدورهم ويدفعون أغلى ثمن، لكن من دون نشوء حركةٍ تقودها رؤية تحرّرية، فالجميع يرتكب جريمةً في حق هؤلاء الأبطال، هم أشبه بأوسم النجوم في "أفيشات" الأفلام وملصقاتها، ننشر صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ونحتفي بهم، لكنّ أغلبنا لا يقوم بشيء.

تعترف الكاتبة هنا بأنها تتردّد خجلاً أحيانا في استعراض صور هؤلاء الأبطال، خجلاً من خنوعنا ومن استسلام أنظمةٍ أصبح بعضها يتنافس على الإقرار زورا بحق الدولة الصهيونية في فلسطين، هي دول تدفع شبابها إلى شيطنة الفلسطيني، لإثبات موقف "حضاري" يمجّد "سلام الصمت" والتواطؤ، بل المشاركة، في محاولة إلغاء فلسطين، فلا يمكن تكريم الشهداء بالتغنّي بأسمائهم، فيما يعكف كثيرون عن المشاركة بأي نشاط أو الضغط على الحكومات، أو على الأقل توعية الأبناء بتاريخ فلسطين. فلنعترف أن كثيرين يصحون مع كل هبّة فلسطينية ثم يبرّرون استسلامهم بالقول بكلّ بساطة "لا شيء يفيد أو ينفع" هذا اسمه خذلان ويقترب من الإجرام.

لن يكون رعد الأخير، وقد يفاجئنا شاب، أو ربما شابة، في أي لحظة، وسيكون لذلك تبعات، فالانتقام الصهيوني عادة ما يكون جماعياً، فهل سيجد الفلسطينيون أنفسهم وحيدين مرّة أخرى؟ .. بعد قمة الانحطاط في النقب، لن تكون صدمة إذا قرأنا بياناتٍ عربية تناصر إسرائيل، أما بيانات الإدانة من السلطة الفلسطينية، فلن تنقذ حتى أصحابها، فالقادة الصهاينة يحمّلون السلطة مسؤولية "الفشل" في رصد المقاومين وقمعهم، هي بيانات ذلّ لن تفيد في إرضاء واشنطن التي أصبحت أشد وقاحةً في إعلان موقفها الصريح أنها لا ترى في السلطة إلا شرطيا، ولا ترى في الأنظمة العربية إلا أنظمةً مهزومة يجب أن تقبل هيمنة الدولة الصهيونية وتساهم في إدماجها في المنطقة.

وجّه رعد لنا صرخة مدوية بقوة الرعد؛ فرعد، الذي ولد في سنوات اتفاقيات أوسلو، نهض ليعلن فشلها في تدجين جيله، فلم تكن اتفاقية أوسلو في المنظور الإسرائيلي اتفاقية سلام أو مرحلة انتقالية لإنهاء الاحتلال، بل لتدجين الشعب الفلسطيني وشرعنة الاحتلال. ولكن رعد ورفاقه لا يرفضون الاحتلال وحسب، بل يحفرون الطريق للعودة إلى كل فلسطين. سخر رعد في وسط تل أبيب من جبروت دولة عسكرية نشرت أهم قواتها الخاصة في مواجهة حرٍّ يتحدّث باسم فلسطين، فلم يكن الرعب الذي عاشته الأجهزة الأمنية من شابٍّ مسلح لا يخشى ترسانتهم المسلحة، بل نسف رعد، بمشيته الواثقة، ادّعاءات بشرعية أخلاقية ولدت مهزوزةً تخاف من صوت الأرض وأبناء الأرض.

تجب مساندة الحركات ضد التطبيع، في العالم العربي وخارجه، بل الانخراط فيها، فهذا أكبر دعم للمقاومة

عودة العقلية والممارسة الفدائيتين، ولو فردية، تعكس وعيا وثورة تكمن في نفوس شباب لم يجدوا في الفصائل مساحةً لتنظيم طاقاتهم في مقاومةٍ ترشدها رؤية فطرة تحرّرية، لكنهم يؤمنون بأن العمل المقاوم، والمسلّح بشكل خاص، هو اللغة التي يفهمها العدو وتوجعه. لكن ذلك لا ينفي ضرورة، بل الضرورة القصوى للعمل المنظّم. لا نقلل هنا من قوة تأثير ضربات الشباب المنفردة وشجاعتها، لكن غياب قيادة للمرحلة يشتّت التأثير، خصوصاً أنّها مرحلة مفصلية في محاولة تصفية القضية الفلسطينية. لكنّ هذه العمليات قد تهيئ أجواء ثورية تدفع بقيادة جديدة على السطح، كما شاهدنا في هبّة أيار (2021) قيادات شابّة تتحرّك، وبعضها أصبح معروفاً إعلامياً، وبعضها يعمل بصمت، وعلى الأقل ليس عبر الإعلام، أي أنّنا في مرحلة مخاض، تربك كلّ من اعتقد أنّه أمسك بخيوط تصفية القضية الفلسطينية من خلال التطبيع غير المسبوق مع الدولة الصهيونية.

لذا؛ تجب مساندة الحركات ضد التطبيع، في العالم العربي وخارجه، بل الانخراط فيها، فهذا أكبر دعم للمقاومة على الأرض الفلسطينية، وجزء منها نشر الوعي لمواجهة الوعي المشوّه أو الغائب بالقضية الفلسطينية. وهي مهمة ليست سهلة، بل تعني، أحيانا، مواجهةً مع أنظمة عربية لا تتردّد في القمع والتنكيل، لكنّها الطريق الوحيد، فالتطبيع مع دولة الاحتلال هو أخطر تهديد لمقاومة الشعب الفلسطيني وصموده.

حاول رعد ورفاقه إيقاظ كل منا، وارتقوا عمالقةً في شجاعتهم، فبدا كلّ المحيط العربي أمامهم قزماً، لكنّ تمجيدهم ونشر صورهم لا يكفي، وإن كان ذلك واجباً علينا، فهم يحيون الأمل، وحتى الروح فينا، فلا مبرّر أو عذر في عدم الاشتباك، فإما انخراطٌ بأشكال مختلفة، أو خذلان وتواطؤ، ولا خيار بينهما.