رسالة متخيّلة من بريد القرّاء

02 ابريل 2025
+ الخط -

أصعب أنواع الكتابة الصحافية ربما التي تتناول لا ذاتك، بل إنتاجك. الكتابة عن الذات غالباً ما تكون سيرة فيها بوح واعتراف وكشف، يتحمّل صاحبها وحده مسؤولية ما يقوله عن نفسه ذمّاً أو تفاخراً، وتبقى أسهل من وصف منتجك. تخيّل مدى إحراج أن يكتب مسرحي عن مسرحيته، أو روائي عن روايته وتشكيلي عن لوحته. لو يُسأل المعني عن منتوجه بشكل نقدي، تسهل المهمة، لأن ذلك يتيح له مجالاً للدفاع أو الاعتراف أو التبرير والاعتذار والشرح والتصويب. أما أن يبادر إلى كتابة نص يحتفي بمولوده، فإنما ذلك يشوبه خطر أن يكون دعاية غير مقنعة لأن أحداً لا يقول عن زيته عكراً، أو نقداً للذات ومصارحة زائدة عن اللزوم مكانها المناسب مكاتب المؤسسة وإلا تصبح تشهيراً انتحارياً، أو الوقوع في فخ اللغة البيضاء التي تراوح مكانها في طابق العموميات التي لا تقول شيئاً مفيداً. أفكار كهذه لا بد أن تكون قد خطرت على بال مؤسِّسي "العربي الجديد" وأفراد أسرة الموقع والصحيفة وهم يحاولون الكتابة في مناسبة ذكرى الولادة الحادية عشرة للموقع الإلكتروني قبل الجريدة المطبوعة بخمسة أشهر، وفي بالهم أنهم محظوظون لأن مؤسستهم أبصرت النور في زمن إغلاق الصحف ووسائل الإعلام عموماً، وفي عصر خرافة "المواطن ــ الصحافي" وكارثة حلول منصات التواصل الاجتماعي مكان وسائل الإعلام التي صارت تسمى "تقليدية" بما يوحي كأنّ الدهر أكل عليها وشرب.
لكنّ إحياء الذكرى الحادية عشرة لولادة "العربي الجديد" (في 30 مارس/آذار) مناسبة سعيدة، على الأقل بالنسبة لنا، نحن أم الصبي وأبيه، ومن طبيعة ابن آدم أنه يسعد لو يسمع إطراءً، لكن أن يسمعه ويقرأه من الآخرين لا من أهل الدار، والآخر هنا هو قارئنا، زبوننا وعلّة وجودنا والسبب الأساسي لعملنا ومعيشتنا. في مناسبة كهذه، يتذكر من عمل في الصحافة قبل 15 سنة مثلاً عظمة اختراع انقرض وكان اسمه "بريد القرّاء". قبل أن تسحق السوشال ميديا ما سبقها من أدوات تعبير، كان القرّاء الأوفياء يبذلون جهداً في كتابة تهنئة أو شكاية أو لوم للصحيفة أو اعتراض، ويرسلونه بالبريد وبعضهم من أشد "المحازبين" كانوا يسلمونه باليد لأحد موظفي المؤسسة خصوصاً في مدن صغيرة المساحة مثل بيروت.
لا بريد قرّاء اليوم يخبرنا عبره متابعو "العربي الجديد" كيف يفكرون فينا بعد مرور هذه السنوات الـ11 من محاولاتنا التحسن وتقديم ما نراه أفضل وأحدث في هذه المهنة. وسائل التواصل الاجتماعي تفي فقط بجزء من المهمة، لكنها تفتقد في كثير من الأحيان ما هو أهم، الصدق. فلنتخيّل في هذه المناسبة رسالة من بريد قرّاء بمناسبة عيدنا الحادي عشر. نتخيّل قارئة أو قارئاً يعاتبنا ويطالبنا بالمزيد من المعلومات والتحليلات والفيديوهات والبودكاستات والتحديث في أشكال الصحافة وبالسرعة في نشر الأخبار والتحقيقات والمقابلات والتنوّع واللغة الرشيقة والروح الشابة في الكتابة، ولكنه يشهد بأننا لم ننزلق في كتابة عنصرية أو طائفية أو تحريضية، وإن سقطنا مرة اعتذرنا وحاسبنا أنفسنا. سنتخيّل قارئة أو قارئاً يقرّ بأن الثورات العربية لم يتغير اسمها عندنا، وأننا حاولنا عدم المساومة في مختلف أصناف كتاباتنا على الديمقراطية وحقوق البشر والمساواة في ما بينهم والتقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، وأننا لا نزال نعتبر أن انتقاد السلطات وفضح تقصيرها وتسلطها وفسادها هما شغلنا الأساسي، لا الترويج لها. لا نشيد بالسلطات حتى عندما تقدم على ما هو إيجابي، لأنها في هذه الحالة تكون قد قامت بواجبها. أما نحن، فواجبنا البحث عن التقصير وعمّا هو خطأ وفضحه لعلّ أحداً يصححه. هذا شيء ممّا نراه في "العربي الجديد" أداءً صحافياً لن نكون قادرين يوماً على الحكم على جودته، فهذا ما يجدر أن يفعله القرّاء.