رسائل من حسّونة المصباحي وإليه
جاء الذين كتبوا عن حسّونة المصباحي، لوفاته الثلاثاء الماضي، على كل كتبه، قصصاً ويومياتٍ ورواياتٍ وترجماتٍ ونصوص رحلاتٍ، إلا على واحدٍ أصدرَه في خواتيم العام الماضي، "زمن الحمام الزاجل... رسائل منّي وإليّ" (أغورا للنشر والتوزيع، طنجة، 2024). وهو نصوصُ رسائل تلقّاها الكاتب من أصدقاء ومعارف له وأخرى أرسلها إليهم (مؤرّخة وغير مؤرّخة)، غالبُها في التسعينيات والثمانينيات، بالبريد. ولم يبتدع صاحبُنا من تونس جديداً في فِعله هذا، نشرَ رسائل متبادلةٍ مع أدباء ونقّاد ودارسين تواصل معهم وتواصلوا معه، في شؤونٍ خاصّةٍ وعامّةٍ، فقد بادر إليه كثيرون، أمتع بعضُهم قرّاءهم برسائلهم تلك، والتي يمكن عدُّها وثائق عالية القيمة تُعين في الإضاءة على تجارب ثقافيةٍ وفكريةٍ ومهنيةٍ لكتّابٍ وفنانين ومفكّرين، وعلى تصوّراتهم في الحياة، واجتهاداتهم وأفكارهم وتحوّلاتٍ فيهما، فضلاً عن شيءٍ من الحميميِّ الشخصيِّ في تلك العلاقات والصلات، وعن شواغل معيشيةٍ وفردانيةٍ في غضونها. وإذ شاع مفهوم "أدب الرسائل" في الحديث عن هذه المكاتبات، فإن صاحب هذه الكلمات يتحفّظ عليه، أو أقلّه لا يتحمّس له، فليس من أدبٍ ألبتّة في رسائل كثيرة مثل المتحدَّث عنها هنا، وإنْ يحضر شيءٌ من الأدب في بعض آخر، عندما تتوفّر على لغةٍ عالية، وعلى مسارَرةٍ تبثّ حوار الذات مع ذاتٍ مقابلة، حيث انكشافٌ وصراحةٌ كثيران، على غير رسائل لا تعدو أن تكون، بصفتها هذه، تبادل أخبارٍ بين شخصيْن، أو استيضاحاتٍ أو فضفضةٍ بينهما في أمورٍ تخصّهما، بلغةٍ مرتجلة. وفي درايتي أن غالب ما نشر من "أدب رسائل" (مع تحفّظٍ) توافق طرفاه (أو أطرافه) على هذا النشر. وأُشهر هنا تثنيةً خاصّةً على نشر القاصّين الفلسطينيين، محمود شقير وحزامة حبايب، 64 رسالةٍ بينهما، في كتابٍ عنوناه "أكثر من حُبّ" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، وقبلهما رسائل محمّد برّادة ومحمّد شكري "ورد ورماد" (2000). وثمّة غير هذين الكتابيْن، الرائقيْن، جالت فيها رسائل متبادلة على كثيرٍ كاشفٍ وغنيٍّ، إنسانياً وثقافياً ومعرفياً.
الكتاب الذي أهدانيه حسّونة المصباحي، أياماً بعد صدوره، صادمٌ في غير وجه، ومربكٌ، ومُزعجٌ ربما، يستثير سؤالاً أخلاقيّاً (ربما) عن جواز نشره، وبالكيفيّة هذه. ... على ما في بعض الرسائل فيه من فائدةٍ في غير مسألةٍ، من قبيل الوقوع على أمزجة كتّابٍ بشأن قضايا مطروحة، إلا أن رسائل أخرى تضجّ بالنمائم الحادّة والثرثرات المسترسلة عن آخرين. وهناك رسائلُ قد تروق لك فيها مقادير الصراحة من حسّونة، مثلاً وهو يخاطب صديقاً مقرّعاً، وناصحاً أيضاً، إلا أنك تسأل نفسَك عن "صلاحية" إذاعة أمرٍ كهذا، وغيرِه من أمور تفيض بالإطلاقيات المرتجلة في استسهالٍ يمكن تبريرُه بأنه في رسالةٍ بريديةٍ من صديق إلى آخر، يدردشان كيفما اتفق. وعندما ينشُر "رسالةً مفتوحةً" منه إلى صديقٍ له يشنّع عليه ويُخاصمه في غير واقعة، فإنما يقصِد هذا كله، وليس مجرّد كتابة رسالةٍ خاصة. وثمّة بذاءاتٌ في غير موضع، تنتسبُ إلى لغة الحانات، قد لا يرى واحدُنا فيها غضاضةً، طالما أن صديقيْن يتداولان ما يشاءان من كلام، ولكنّ سؤالاً قد يُجاز ما إذا يصحّ أن نتعرّى أمام غيرنا إلى هذا المدى، عندما ننشر ما يتراسَل من قولٍ على ألسنتنا. ولا يتّصل سؤالٌ كهذا بقضية أدبٍ معقّم وآخر غير معقّم، فالقصّة كلها لا تتعلّق بأي أدبٍ، على ما ذهب صاحبُ هذه المقالة أعلاه.
طريفٌ من كاتبٍ لبنانيٍّ يطلب من حسّونة أن لا يقرأ ما يكتبه في مجلةٍ معيّنة، "أرجوك ألا تقرَأه أبداً، أنا نفسي لا أقرأه، إنه مجرّد إسهالٍ تافه، مهمّته الوحيدة دفع فواتير الماء والكهرباء والهاتف حتى إشعار آخر". يُستطاب هذا المدى من الصراحة في اعترافٍ مشهودٍ كهذا. ويُستطاب من حسّونة نفسِه ما أفاد به في مقدّمة كتابه، الصادم (كما سبقت الإشارة)، أن رسائل فلوبير حرّضته على قراءة رسائل كتّاب وشعراء ومفكّرين وفنانين من جميع العالم، ليحصل منها على متعةٍ، و"على غذاءٍ روحي وأدبيٍّ وفكريٍّ رائع ومفيد". ويتمنّى أن يجد القارئ العربي في كتابه "ما يُمتِعه ويُغنيه معرفياً، ويُبرز له خصائص ومميّزات ما قبل الإنترنت، ويعيد الاعتبار لأدب الرسائل الذي يكاد يكون منعدماً في الثقافة العربية المعاصرة". ... لمّا قرأتُ الكتاب، وجدتُ بعض الإمتاع والمؤانسة، ومعرفةً أعرضَ بأمزجة كتّابٍ ومثقفين عربٍ أعرف كثيرين منهم، لكني لم أجد إلا الشحيح مما سمّي "أدب الرسائل".