رحلة الجولاني إلى الشرع
لم يكن أحمد الشرع، في رحلته بين محطتي "أبو محمد الجولاني" والرئيس السوري، قطعاً في عداد ركّاب الدرجة الأولى، ربما ولا السياحية، فالرجل الذي أثبت دوماً أنه مقاتلٌ عنيدٌ بإرادة صلبة وأعصاب فولاذية، لم يضره يوماً أن يحفر طريقه بنفسه في الصخر وبمنتهى التصميم. وفي وقتٍ كان الوريث الساقط يتفنّن في تحويل فرَصِه (وما أكثرها) إلى تحدّيات، عرف الجولاني كيف يجترح فرَصَهُ من التحدّيات التي واجهته، وما أكثرها أيضاً. ولستُ على الإطلاق في وارد إجراء أية مقارنة بين الشرع والمخلوع الهارب، فهي لا تجوز حتماً، وتنطوي على ظلم شديد، ولكن قراءة متأنّية وهادئة لشخصية رئيس المرحلة الحالية قد تكون ضرورية لمحاولة استشراف المستقبل الذي ينتظر سورية وشعبها.
في ظهوره الأول على قناة العربية، في 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قائداً لغرفة العمليات العسكرية وقتها، عبَّر الشرع عن مجموعة مواقف مهمة. وعلى عكس المخلوع الهارب الذي كان يلقي الكلام على عواهنه، وبكثير من التنظير والقليل النادر من المعاني الحقيقية، وبانفصال كامل عن الواقع والوعي والإدراك، يضع الشرع أفكاره بعباراتٍ مختصرةٍ ودقيقة ومباشرة، فالرجل يعني ما يقول، ويقول ما يعني، بعيداً عن التذاكي والاستظراف وخفة الدم الممجوجة التي عُرف بها الأسد الفارّ. وهنا ثلاث نقاط أعتقد أنها الأهم في حديثه: وقف مشروع تصدير الثورة الإيرانية وتدخّلها في الشأن الفلسطيني، أن الشعب في سورية تعب كثيراً من حالة الحروب والتجاذبات، تأكيده عدم السماح بأن تكون سورية محطة لإزعاج أيٍّ من دول الجوار.
وكانت هذه المحاور الأهم في حديث الشرع، لأنها بكل بساطة تشكل في مجموعها المعادلة الإقليمية المهمة التي فرضها واقع طوفان غزة ما بعد 7 أكتوبر (2023)، بمفاعيلها على المنطقة برمتها، والتي سمحت بإسقاط الأسد لعدم قدرته على الالتزام بها، وإذ يؤكّد الشرع هنا فهمه الواضح جداً لهذه المعادلة، فهو يؤكّد التزامه بها، وأي حديث آخر في الشأن السوري سيكون تفاصيل تأتي بعد ذلك.
سيكون طبيعياً أن يواجه الشرع تحدّياً حقيقياً في مدى استطاعته السيطرة على قرار مجموعة فصائل وجماعات ومنتسبين بعضهم ليس سورياً
تكمن النقلة الفارقة في رحلة الجولاني إلى الشرع في حاجته إلى إطلاق مسارَين متعارضين ومتناقضين بتزامن دقيق، يهدف الأول إلى تجميع قوى الفصائل كلها في يده، ليفرض من خلالها سلطته. ومن هنا كان طبيعياً أن ما اصطُلِحَ على تسميته مؤتمر النصر جاء سابقاً بيوم على إعلان رئاسته المرحلة الحالية، بالتوازي مع الحصول على شرعية عربية ودولية قد تساعده في إنهاء هذه الحالة الفصائلية مرةً وإلى الأبد، الأمران اللذان تحتاج مزامنتهما إلى قدر كبير من البراغماتية والحنكة التي لا أعتقد لحظة أنها تنقصه، ولكن السؤال ما إذا ستكون كافية.
سيكون طبيعياً أن يواجه الشرع تحدّياً حقيقياً في مدى استطاعته السيطرة على قرار مجموعة فصائل وجماعات ومنتسبين بعضهم ليس سورياً، لم يكن يجمع بينهم سوى هدف إسقاط النظام، وإذا كان إنهاء الحالة الفصائلية أمراً إيجابياً بالمطلق، ففي التفاصيل تكمن بعض الأسئلة المهمة، منها مثلاً أن قوى كثيرة فاعلة في الجيوبوليتيك السوري لم تكن موجودة في "مؤتمر النصر"، أو أن تمثيلها كان رمزياً بحتاً، ولا يلغي اختلافات لا تزال قائمة مع الإدارة الجديدة.
اختارت الدول الفاعلة في النظام الرسمي العربي (وبدرجات مختلفة) الانخراط الإيجابي الحذر مع الوضع السوري الجديد، من دون التخلي عن تحفظاتها عليه
الأمر الآخر الذي سينطوي على تساؤلات مهمة هو عن منعكسات إدخال جماعات وفصائل غريبة عن المشهد السوري في بنية الجسم العسكري الجديد، وما قد يحمله هذا من تعقيدات مع دول عربية وغربية، الأمر الذي ربما كان أحد أسباب زيارة السفير السعودي في دمشق، فيصل بن سعود المجفل، وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، أواخر الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، إضافةً إلى ما قد يحمله هذا الأمر أيضاً من تحفظات لدول غربية على أسماء بعينها. ولكن السؤال الأهم يبقى عن مدى صلابة هذا الاتفاق وقدرته على الصمود والاستمرار.
وفي ما يتعلق بموقف النظام الرسمي العربي من الشرع فسيكون محكوماً بثلاثة حدود مهمة: الأولى، حالة التوجس الدائم من تمكّن أيٍّ من ظواهر الإسلام السياسي من الوصول إلى الحكم في أي بلد عربي، بغض النظر عن قدرة النظام الذي تنتجه لاحقاً على الخروج من عباءته الدينية، وهذا التوجس غير مرشّح للتغير، ومردّه لأسباب خاصة بدول هذا النظام وطبيعة تركيبتها السياسية والاجتماعية.
الثاني، حرص هذه الدول على وجود شكل من أشكال الاستقرار في سورية حالياً، ولو في حدوده الدنيا، لعلمها أن أي فوضى قد تنتقل إلى أراضيها.
الثالث، حرص هذه الدول على عدم ترك الساحة السورية ملعباً مفتوحاً لتركيا، القوة الإقليمية المهمة التي لن يرضى النظام الرسمي العربي أن تستفيد من تراجع النفوذ الإيراني في سورية والمنطقة لصالحها.
عرف الجولاني كيف يستفيد من لحظة نادرة سمحت له بدخول دمشق، ولكنه يعلم أن عليه هُوَ تحديداً صناعة لحظات وطنية عديدة سَتُمَكِّن لسورية الجديدة
في ظل هذه الحدود الثلاثة، اختارت الدول الفاعلة في النظام الرسمي العربي (وبدرجات مختلفة) الانخراط الإيجابي الحذر مع الوضع السوري الجديد، من دون التخلي عن تحفظاتها عليه، ولكن عيونها ستبقى على واشنطن لتراقب مدى تفاهمات الرئيسين، الأميركي ترامب والتركي أردوغان، والتي ستكون لها منعكساتها المهمة في الوضع السوري، الأمر الذي يدركه ترامب كفايةً بما سيسمح له بممارسة الدور الذي يتقنه تماماً بابتزاز الأطراف كافةً، فمن جهة ستسمح علاقته المريحة بأردوغان بأن يحد من الطموحات الكردية في شمال شرق سورية، ولكن ليس إلى حد تحييدها بالمطلق، الأمر الذي سيعارضه البنتاغون أيضاً. ومن جهة ثانية، سيحافظ على حاجة دول النظام الرسمي العربي لتدخله لضبط النفوذ التركي، الأمر الذي سيمكّنه من فرض تسويات كبرى في المنطقة، ستكون على حساب الفلسطينيين.
الجولاني مدعوماً بمطالب السوريين المحقة، ونضالهم الطويل ضد سلطة النظام البائد، وبدعم قوتين إقليمية وعربية، وضوء أخضر أميركي وإقليمي، عرف تماماً كيف يستفيد من لحظة نادرة سمحت له بدخول دمشق، ولكنه يعلم أن عليه هُوَ تحديداً صناعة لحظات وطنية عديدة سَتُمَكِّن لسورية الجديدة، الأمر الذي قد يكون أكثر تعقيداً من التعامل مع كل المعادلات الإقليمية التي استفاد منها النظام البائد، إلى أن أودت به.