رحلة إلى نيبال

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
(منى باسيلي صحناوي)
لم يخطر في بالي عن نيبال (قبل زيارتي لها) سوى ما يشبه الطرفة، إن المُنتخَب العُماني كان يأتي بمُنتَخب نيبال قبل بطولة كأس الخليج لغرض واحد، وهو أنه يضمن أن يهزم نيبال، ما يمنحه حماسةً قبل خوض مباريات البطولة. كان ذلك في الثمانينيّات من القرن المنصرم، إذ ظلّ المُنتخَب العُماني سنواتٍ يحجز مقعده الأخير في هذه البطولة. لكن رغم جرعة النصر التي يتلقّاها المُنتخَب العُماني بفوزه على نيبال بنتيجة كبيرة، تصل أحياناً إلى ثمانية أهداف مقابل صفر لمصلحة عُمان، إلا أن المُنتخَب العُماني لم يتزحزح عن المركز الأخير، الذي لا يمكن أن ينافسه فيه أحد. العلاقة بنيبال إذاً ظلّت مرتبطةً بذلك السياق البعيد، على طرافته، قبل أن أصل إليها.
الحفر كثيرة في الشوارع، بل تشعر أن السيارة التي تقلّك ترقُص على أنغام الطبيعة السارحة في الأفق، إذ تقع نيبال بين بلدَين كبيرَين، الهند والصين، وكان بالرفقة الكاتب المخضرم، والصديق محمود الريماوي، ملك القصة العربية غير المتوّج. ومنذ أيام قريبة وصل إلي مقال قديم كتبته عن مجموعته القصصية "القطار" قبل أكثر من ثلاثين عاماً في صحيفة عُمان، قبل أن أتعرف على الريماوي شخصياً، وكم هو غريب أمر الذاكرة! حين قرأت منذ عامين هذه المجموعة القصصية البديعة، التي سبق أن فازت بجائزة في القصّة كان ضمن لجنة التحكيم فيها الشاعر محمود درويش، قرأت المجموعة القصصية مرّة ثانية بشعور من يقرؤها للمرّة الأولى، وقد نسيت تماماً أني قرأتها في بداية العشرينيّات من عمري، بل فوق ذلك كتبت عنها مقالاً، وما كنت لأتمكن من معرفة ذلك لولا المصادفة التي جعلت الشاب محمّد، نجل الكاتب العُماني الراحل مبارك العامري، يلمّح إلى هذا المقال، وهو يبحث عن أرشيف والده، ثمّ يصوّره ويرسله إلي.
بالعودة إلى نيبال، التي أكثر ما يلفت الزائر فيها كثرة الحفر في الطرقات، وهامشيّة الحياة التي تتداخل فيها مجموعة متناقضة من المشاعر والمواقف، حيث سنجد كمّاً كبيراً من الشبّان الأوروبيين سياحاً يأتي بعضهم نيبال ليجرّبوا مشاعرَ جديدةً بأرخص الأثمان، فإلى جانب قمّة إيفرست، ضمن سلسلة جبال الهملايا، هناك أيضاً الفنادق الرخيصة، ومن مختلف الدرجات والأسعار. في إحدى المرّات، وجدت أوروبياً يسكن دكّاناً لا يغلق صاحبه ضلفتي محلّه إلا بعد أن يفرش سريراً لهذا السائح مقابل مبلغ زهيد. يغلق الدكّان بعد ذلك ولا يفتحه إلا في الصباح. هناك أيضاً بعض الفنادق الرخيصة، وجدت فيها شبّاناً يستمتعون بالمشي حفاةً، وشبه عراةٍ، متحرّرين من أدنى قيد مادّي.
وإذا مشيتَ مع الريماوي، فأنت مع متعة الحديث وخبرة الحياة في أعلى تجلّياتها، إلى جانب ما يتمتّع به الرجل من هدوء وبصيرة. أيضاً، فنجان القهوة عند الريماوي نسغٌ يوميٌّ أساس، لا تستقيم الحياة من دونه، فيحتسيها عدّة مرّات في اليوم مع السجائر. ولأننا في بلد ذي طابع هندي، حيث شاي المسالا الأكثر انتشاراً، يعتبر البحث عن مقهى يقدّم قهوة إسبريسو مشواراً مضنياً ومتاهةً لا تنفرج بسهولة. وأذكر في بخارى، التي وصلنا إليها بعد قطع مسافة عشرين ساعة في سيارة أجرة، وهي بلدة بعيدة عن العاصمة كوتوماندو، تتميّز ببحيرتها الشاسعة التي تحيط بها سهول خضراء، ومطاعم يمتلك بعضها مقيمون عرب، فاستقر بنا المُقام عند صاحب مقهىً منزوٍ يقوم بحركات بهلوانية أثناء حديثه، وهو يظنّ أنه يقلّد ممثّلين أميركيين، وهذا البهلوان اللطيف كان يعيش مع عائلتة في المقهى نفسه الذي كان في الأصل جزءاً من بيته، إذ استغلّ الشاب الجزء المطلّ على الشارع من هذا البيت، ليفتح فجوةً تقدّم "إسبريسو"، ركز أمامها طاولتَين وكرسيَّين. وكان الأمر عند الريماوي سبباً لسعادة بعد بحث. وأثناء المكوث في هذا المقهى، كانت تمرّ علينا بعض الأبقار الصامتة، فتجد صادق الاحترام من الجميع، حتى من سائقي السيارات الذين يتوقّفون ينتظرونها حتى تنهي مهمّة العبور البطيء، الذي لا يخلو أحياناً من توقّف مزاجي في عرض الطريق.


كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية