ذكرى الهزيمة في زمن الانحطاط العربي

ذكرى الهزيمة في زمن الانحطاط العربي

23 يونيو 2022
+ الخط -

حلت هذه السنة ذكرى هزيمة يونيو 1967 في زمن لم يعد فيه موقف عربي من قضية العرب الأولى، ولا موقف عربي واحد من مآلات الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما لم يعد أحد يعرف ماذا يجري بالضبط بين الفلسطينيين وإسرائيل في ما سُمِّي واقع الحكم الذاتي، ومسلسل إكمال بنود اتفاق أوسلو للسلام؟ تحل ذكرى الهزيمة، وما تزال أوضاع الفلسطينيين تثير أسئلة عديدة بشأن مختلف الشعارات والانتفاضات والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، التي واكبت إجراءات تنفيذ بنود الحكم الذاتي .. مقابل ذلك، تُكثِّف إسرائيل عمليات اختراقها للوجود العربي في المشرق والمغرب، مستفيدة من مختلف التداعيات والآثار التي خَلّفها عقد كامل من الاحتجاجات التي شملت أغلب بلدانها، وأدّت إلى حصول ثورات واضطرابات شملت مختلف بنياتها.

ماذا يمكن أن يقول من استأنس بالكتابة عن زمن الذكرى، باعتباره أفقاً لترتيب كيفيات في مواجهة الحال الفلسطيني والأحوال العربية، وكذا أحوال مختلف الدّاعمين للمشروع الوطني الفلسطيني؟ ليس من قَبِيل التشاؤم أن يفكّر المرء اليوم في الهروب من مختلف المؤشّرات إلى صور التراجع الحاصلة في موضوع الدفاع عن الحق الفلسطيني. وليس من قَبِيل الخوف، القول إن إسرائيل عزّزت وتعزّز حضورها على أرض فلسطين وسط الشام الكبرى وفي قلب المشرق العربي، فزغاريد التطبيع التي ارتفعت وتصاعدت في الخليج وفي المغرب، وأشكال التعاون الجارية بين بلدان عربية كثيرة وإسرائيل فيما أصبح يُعرف بالتطبيع المُقَنَّع المُعَمَّم، وكذا بؤس القيادات الفلسطينية العاجزة عن رؤية مآلات الوضع الفلسطيني، مآلات المقاومة، بل وعجزها عن ضبط مسلسلات التنسيق الأمني التي انخرطت فيها مع الأجهزة الإسرائيلية .. فكل هذا يضعنا أمام أوضاعٍ تدعو إلى خوف وأسىً كثيريْن، حيث لم يعد من السهل اليوم التفكير بوضوح وهدوء في الأحوال الفلسطينية.

يقف الفلسطينيون اليوم، بعد أزيد من خمسة عقود على هزيمة 67، أمام السياسات الإسرائيلية العدوانية، أمام سياسات التطبيع، أمام صمت مؤسّسات المنتظم الدولي، أمام الخلافات القائمة بين سلطة الحكم الذاتي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، أمام سياقات التصعيد الإسرائيلي، أمام التدهور والانحطاط المتواصليْن في الأوضاع العربية، فقد أصبحنا أمام وضع عربي بلا أفق سياسي مُحدّد، اختفت التطلّعات والشعارات التي تغنّى بها الجميع، وأصبحنا اليوم بلا أفقٍ يسمح بترتيب موقف سياسي مؤسسي واحِدٍ أو مشترك، من كل ما يجري أمامنا من ويلات، أفقٍ تزكّيه وتدافع عنه مؤسسات العمل العربي، وأغلبها مُعَطَّل، أو تزكيه مؤسسة جامعة الدول العربية، وقد تحوّلت هذه اليوم إلى بناية بدون عمل، في وقتٍ نعتقد أن حاجة العربي تضاعفت إليها، وذلك أمام الأدوار الجديدة التي تمارسها اليوم القِوَى الإقليمية والدولية، وهي ترسم خططها الرامية إلى صناعة خرائط جديدة في البلدان العربية، خرائط توظّف من أجل بلوغها أطرافاً عربية ضد أطراف أخرى، من دون أن نتحدّث عن القِوَى الدولية التي تُوجّه عن بُعد مسارات الصراع وشعاراته، وكذا خططه القريبة والبعيدة.

أصبحنا اليوم بلا أفقٍ يسمح بترتيب موقف سياسي مؤسسي واحِدٍ أو مشترك، من كل ما يجري أمامنا من ويلات

كيف نواجه هذا كله زمن الذكرى؟ تذكّرت أن الثقافة السياسية العربية أنجزت، في مطالع السبعينيات، ما يُعرف بثقافة النقد الذاتي، حيث برزت جهود فكرية تدعو النخب السياسية والمثقفة إلى ممارسة أشكال من النقد الذاتي، نقد الشعارات السياسية المرتبطة بحرب 67، نقد الأسلحة، نقد الدّعم الاستعماري للمشروع الصهيوني، نقد الفكر المحافظ في ثقافتنا وفي سياساتنا، وأن مشاريع النقد الذاتي بعد الهزيمة، أثمرت فكراً جديداً حاول الانتصار لقيم مختلفة عن التي صاحبت الحرب وواكبت الهزيمة. لكن، لماذا لم يتمكّن العرب والفلسطينيون من مأسسة النقد الذاتي في ثقافتهم وسياساتهم؟

أذكر أيضاً، أن مثقفين وساسة عربا كثيرين، واصلوا احتضانهم المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني، وأن مؤسسات المجتمع العربي المشترك ساهمت بدورها في المحافظة على احتضان مشروع المقاومة، إلّا أن ذلك كله لم يُنْتِج خلال العقود التي توالت، سوى مزيد من الانكماش العربي ومزيد من الاندفاع الإسرائيلي، وأن ترتيبات ما أصبح يُعْرف بمؤتمرات السلام أغلقت الباب على الفلسطينيين، وقد تضاربت أوضاعهم اليوم، واشتبكوا في مواجهة مواقف وخيارات دون قُدرة على بناء ما يُسعف بإيجاد الحلول المناسبة لقضيتهم التي تُعَدُّ اليوم من بقايا الزمن الاستعماري.

 وصل التدهور العربي إلى حالة أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع إلى بعضهم، والتفكير في كيفيات ما يجري أمامهم

تابعت بعض ما كُتِب بمناسبة ذكرى الهزيمة هذه السنة ، فانتبهت إلى عناوين تشير إلى زوال وانهيار إسرائيل، وأخرى تشير إلى النقد والهزيمة، وثالثة تتحدّث عن الذكاء والمتعة والكآبة، وتَبيّنت أن منطوق كثير من الكلمات التي تحملها هذه العناوين يحمل في ذهني إيحاءات خاصة، على الرغم من أنني استأنست بالكتابة عن أحوال القضية، منذ ما سُمِّي نصر أكتوبر مطلع السبعينيات إلى "كامب ديفيد" و"وادي عَرَبة" وأحلام المطبّعين الجدد. فهل يواصل الساسة والمثقفون الحديث عن تاريخ يشاهدون تحوّلاته، ولا يمتلكون العُدَّة الكافية لاختراق التدابير والإجراءات التي تساهم في صناعته ؟

ارتفعت مؤشّرات التطبيع مع إسرائيل مقابل نزول أسهم المساندة الفعلية للفلسطينيين، ومناطق الحكم الذاتي المتعثر في الضفة والقطاع .. ووصل التدهور العربي إلى حالة أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع إلى بعضهم، والتفكير في كيفيات ما يجري أمامهم. وتَخَطَّى الصراع المتواصل في العراق وسورية وليبيا واليمن وفي الخليج العربي، سياقات الربيع العربي وتداعياته. أصبح العرب اليوم خارج زمن الثورات العربية، أي خارج معادلات الإصلاح والثورة، وخارج منطق مواجهة الاستبداد والفساد. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنهم أصبحوا أيضاً خارج أفق البحث عن سبل مواجَهة إسرائيل، وداعمها الأكبر الولايات المتحدة. لكن ما العمل أمام العواصف القائمة؟ ما العمل أمام صور تصاعُد الغطرسة والعدوان الإسرائيليين؟

لا أستطيع التسليم بالانهيار الكلي عربياً وفلسطينياً، ولا أمتلك الشجاعة الكافية للحديث عن خيار المقاومة، في سياقات الراهن العربي والفلسطيني، فقد تعلمت من السياسة والتاريخ أن قضايا التحرّر مُطالبَة بأن تختار دائماً وهي في قلب العاصفة، حتى لا يَحصلَ تفسُّخُ ما تبقى من وهجها وعنفوانها .. وهو يعلمنا أيضاً أنه، في حال عجزها عن المواجهة، سيلحقها مصير آخر، كثير من علاماته يمكن معاينتها اليوم في الراهن العربي والفلسطيني.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".