ذبابة غزّة

07 ابريل 2025

(باسل المقوسي)

+ الخط -

في بداية انتشارها، أطلق الإعلام عليها اسم "الذبابة الحمراء"، ثمّ "الحشرة المُلطِّخة". وبعد مضي الوقت، وتوالي الأيّام الدامية، لم يعد أحد يطلق عليها سوى اسم "ذبابة غزّة". هذه الذبابة التي لم تأتِ من الصين، الاتهام الأميركي الجاهز لمصدر أيّ هجوم غامض من الطبيعة أو غيرها، كما حدث مع كوفيد-19، عندما هزّ الرئيس ترامب في ولايته الأولى سبّابته قبالة وجوهنا في الشاشات يتهم الصين، إنما مصدر الذبابة هذه المرّة السماء.
ذات يوم عاصف مطير، تقيأت سحابة سوداء حمولتها على الأرض قبل أن تكمل طريقها الأفقي البطيء. ولم تكن تلك الحمولة سوى ذباب بأرجل دامية، ذباب غريب توزّع ما إن غادر بطن السحابة بين الجهات الأربع للأرض. حطّت بدايةً يرقاته في مدينة بازل بسويسرا، حين سقط على سفح عشب يانع لحديقة خلفية مهجورة (قد يكون بقايا المقرّ الذي أقيم فيه المؤتمر الأول للحركة الصهيونية، يوم 29 أغسطس/ آب عام 1897)، وقد ظلّت اليرقات تنمو بهدوء زمناً ليس بالطويل ولا بالقصير، قبل أن تحلّق فجأةً منطلقةً في فضاء الكوكب الواسع. وكان الذباب في طريقه يتلاقح ويتناسل بسرعة الريح، ومن دون راحة أو توقّف. ما ميّز هذه الذبابة المُلطِّخة، أن من أرجلها الأربع تتدلّى رسالة حمراء بدم قانٍ، فما إن تقع تلك الأرجل على قطعة ثوب أو جدار أو كرسي أو سيّارة إلا وتلطّخه بلون الدم. وهكذا صار لون الحياة أحمر، أو يذكّر الناس بالمكان الوحيد الذي لم تزره هذه الذبابة، وهو قطاع غزّة، لذلك ما لبث أن ثُبّت اسمها الجديد في أذهان الناس بـ"ذبابة غزّة"، ليس لأن غزّة مصدرها، كما يمكن أن يوحي الاسم بداهةً، بسبب الحصار والأمراض والتجويع والقتل والتقليع الذي يمارس بوحشية على العزّل الأبرياء هناك، بل لأن رسالة الذبابة صارت واضحةً مع الوقت: أيها الصامتون، جميعكم تشتركون في جريمة "الموت السريع" (الأكسبرس على الطريقة الأميركية)، الجريمة التي ما زالت فصولها عاريةً وموثّقةً صورةً وصراخاً.
كان كلّ ما تقع عليه الذبابة يتحوّل إلى لون الدم. أربع أرجل حمراء رُكّز فيها لأنها تحوّل ما تلمسه كلّه إلى قطرات دم. لم تردعها قنابل المبيدات الحشرية التي تطلقها الطائرات. تترنح الذبابة ساقطة على الأرض، ولكنّها لا تلبث أن تستيقظ من دوختها سريعاً لتستأنف نشر رسالتها الصامتة، حتى أولئك الذين ظنّوا أنهم يوقدون جذوة ذكائهم، ويشحذون بصيرتهم حين ارتدوا الملابس الحمراء، ما لبث أن تبقّعت ملابسهم تلك باللون الأزرق، وعليها آثار ناصعة للأرجل الرفيعة الأربع التي تذكّر بلون الدم.
كانت الذبابة تدخل إلى أيّ مكان فيه ثقب أو نصف ثقب. كل اجتماع أنيق لا بد أن يتلطخ جلّاسه بلون الدم. توقّفت السيارات عن العبور، لأن الدم لطّخ زجاجها الأمامي. دم ثخين تصعب إزالته بسهولة، حتى إن نجحنا في دعكه، فلا يلبث أن يعيد الذباب تلطيخه بلون الجريمة. طاول الدم مختلف وسائل النقل من حافلات وقطارات ومترو أنفاق، استعان الناس بأقدامهم أو بعربات الحمير، التي ظننا أنها تقبع وراء الزمن، ولن يخطر ببال أحد أن من الممكن أن تعود متسارعةً إلى زمننا لتشارك في إنقاذنا، بل إن أسعارها صارت بعيدةً من المتناول بسبب شدّة الطلب عليها قياساً إلى السيارات المركونة تحت لطخات الدماء في جوانب الطرقات وحوافّ المدن، حتى ساحات المدارس صارت مرائب للسيارات المعطّلة.
في واشنطن ولندن، وبعض الدول الداعمة بعماء لإسرائيل، مثل ألمانيا وفرنسا، اجتهد إعلامها في تشتيت الأذهان عن مصدر الخطر الحقيقي؛ إسرائيل. لا أحد الآن يصرّح بتجريمها، كما حدث مع الموجات الأولى من الذبابة الدامية. إذا استثنينا دولاً من أميركا اللاتينية والشعوب العربية المقموعة، وبعضاً من حملة الضمير الحي في العالم، فإن الحكومات انكفأت على نفسها وخزيها، إلا بالتليمح الخافت بأن مصدر هذا الوباء هو إسرائيل. وإمعاناً في خداع الذات، وسّع اللون الأحمر وتاريخه الرومانسي الطويل مساحته الضيقة في التداول الإعلامي، لون الحبّ والشهوة والسهر السعيد، ولون الأحلام المحايدة. أيضاً، هو لون الورود المرفوعة رسائلَ إلى القلوب.
نمشي مسافات طويلة طويلة، وقد غيّرنا أحذيتنا على غير المعتاد، وكان الذباب يلطّخ ملابسنا وحياتنا بلون الدم.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي