دَور الحظ في عالم السياسة

21 مايو 2025
+ الخط -

يُؤثَر عن عالِم النفس السويسري كارل يونغ قوله "الحظُّ محضُ مصادفة يصبح لها عند تحقّقها معنى استثنائيٌ". وإذا أخذنا هذه المقولة إلى عالم السياسة نكتشف أن حظوظ اللاعبين قد ترسم مسار السياسات سلباً أو إيجاباً، وإن حظ غزّة ليس قطعاً كحظ سورية، فقد دخلت سورية أجندة قمة أميركا ودول الخليج في مصادفة غير محسوبة، ولعبت السعودية وتركيا دوراً في الدفع باتجاه رفع العقوبات المفروضة أميركياً عليها في أثناء حكم النظام السابق، واقتنع الرئيس دونالد ترامب باتخاذ هذه الخطوة لتمكين القيادة السورية الجديدة من إنضاج شروط حالة معافاة ونهوض، وتأمين انتقال ديمقراطي سليم يضمن مشاركة كل السوريين فيه من دون تمييزٍ ولا إقصاء، وهذا يضع على الرئيس أحمد الشرع مسؤولية تاريخية باعتباره الفاعل القوي والواعد، على حدّ وصف ترامب له.

المفارقة اللافتة أنه في وقتٍ تماهى فيه القادة حاضرو القمة مع حظ سورية الذي يذكر بالخير، تركت غزّة لحظها السيّئ الذي وضعها بين فكَّي الوحش الإسرائيلي، ونأى الكلُّ عنها، وتجاهلوا ما يحصل لها، ولم يقتربوا من معاناتها التراجيدية الخانقة التي التهمت، إلى حد الساعة، أزيد من 53 ألفاً من البشر، وأعاقت أو جرحت أضعاف هذا العدد، وما زال النزيف مستمرّاً، ولم تُنصَف بعبارة واحدة، أو لفتة صغيرة، أو حتى بوعدٍ غير ملزم بوقف المجزرة، وحماية من بقي وما بقي من بشر أو حجر، لعل ذلك يفرض على نتنياهو فعل شيءٍ لا يريده، وقد اكتفى اللاعب الأميركي القادر على الفعل بتذكير أهل غزّة بعزمه على تحويل أرضهم التي ورثوها أباً عن جد إلى "ريفييرا" سياحية، وبتصميمه على العمل على تهجيرهم إلى الجحيم الذي ربما ستتكفل بإقامته لهم ليبيا، على حدّ ما زعمته تقارير إخبارية طازجة.

مرّة، كتب برنارد لويس صاحب نظرية "ضرب العرب بالعصا الغليظة" أن بلداناً عربية قد تُعاقب بسبب مزاياها، وليس بسبب أخطائها، ويبدو أن غزّة من البلدان التي يشملها تعبير لويس، فقد ظلت عرضة لعقاب الآخرين، وبينهم أشقاء وأصدقاء، بسبب مزاياها، وليس بسبب أخطائها.

مع ذلك، يمكن القول إنّه لا "الحظّ" ولا المصادفة وحدَهُما ما غيّب قضية غزّة عن أجندة القادة، إذ ثمّة ما هو أكثر تأثيراً على المشهد، إذ تحكّمت العلاقة التاريخية الحميمة، وغير القابلة للتفكيك، بين واشنطن وتل أبيب في تحويل القضية إلى ما يشبه الهامش الصغير الذي لا يثير اهتمام أحد، كما أن الرئيس الأميركي نفسه كأي تاجرٍ خبيرٍ بمهنته أدرك أنه لا يمكن له أن يغامر بعقد صفقاتٍ يبدو فيها هامش المخاطرة كبيراً، ولا تحقّق له ربحاً، وقد تغضب حليفه الروح بالروح بنيامين نتنياهو.

تُركت غزّة لحظها السيّئ الذي وضعها بين فكَّي الوحش الإسرائيلي، ونأى الكلُّ عنها

ومع لفتةِ رجال القمّة إلى سورية، كانت هناك شراكات اقتصاديّة وتكنولوجيّة بين أميركا ودول الخليج، تؤسّس لعلاقات تفتح الطريق لدخول هذه الدول في منظومة الاقتصاد العالمي بطريقة "تقاسم المصالح"، وإذا كان "الشيطان يكمُنُ في التفاصيل" فإن هذه الخطوات مثّلت للأميركيين "انتصاراً جيوسياسياً"، وهو ما أطلق عليه ترامب تعبير "إعادة التّموضع". وفي نظر القادة الخليجيين، قد يعيد هذا ترتيبَ الأوراق على نحوٍ يخدم، في محصّلته، القضيةَ الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى، وهذه النظرة فيها كثير من التفاؤل، خاصّة وأن ترامب لم يطرح حلولاً جادّة لما تعاني منه المنطقة من أزماتٍ، وكل ما حملته جعبته تأمينَ العودة من الرحلة الخليجية بحصيلة تريليونية تضخّ في مفاصل الاقتصاد الأميركي شروطَ استمرار الحياة المطمئنة للأميركيين، وهو ما كان بشّر به مواطنيه منذ وطأت قدماه البيت الأبيض، وكان في وسع القادة الخليجيين أن يمارسوا ضغطاً أقوى على الرئيس الأميركي لإجبار إسرائيل على وقف الحرب على غزّة، أو على الأقل القبول بهدنة إنسانية تتيح إدخال الغذاء والدواء إلى أهلها.

على أيّ حال، تُنبئنا مجريات الأحداث أنّ ولادة "الشرق الأوسط الجديد" الذي تتصدّره إسرائيل تمرّ بسلاسةٍ منظورةٍ بموازاة "بشائر" العصر الأميركي الجديد الذي يراه ترامب، والذي يعني أن الولايات المتحدة ليست "نمراً من ورق"، بحسب وصفٍ أطلقه عليها الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ، ولا هي "إمبراطورية آيلةٌ للسقوط" كما راهن زعيم كوبا فيدل كاسترو، إنما هي ما تزال تمثل "القطب الأوحد" الذي يمتلك الإجابة على الأسئلة الكبرى التي تتردّد في عالم اليوم، وعلى بلداننا أن تتعلم كيف تتعامل معه، وكيف تضع حدوداً فاصلة بين ما تريده منه وما يريده هو منها، بعيداً عن الأوهام والشعارات الفارغة، والأيديولوجيات المليئة بالثقوب.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"