دور بابا الفاتيكان العتيد
كاتدرائية القديس بطرس حيث جثمان البابا فرنسيس في الفاتيكان في روما (25/4/2025 فرانس برس)
ما الذي يعنيه في عالم اليوم انتخاب بابا جديد للكنيسة الكاثوليكية؟ غير أن عليه الاختيار بين الانخراط المباشر في الأحداث العالمية، بصفتيه الدينية، أرفع رأس للكاثوليك، والسياسية رئيسا لدولة ولو أنها لا تملك دبّابات، حسبما قال ذات يوم الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين.
في الصفتين، لم يعد مطلوباً من البابا العتيد التراجع عن أساسياتٍ ارسى البابا الراحل فرنسيس أسسها، تحديداً في سياقات الخطاب الديني الإصلاحي، وهو من أبرز تجليات المجمع الفاتيكاني الثاني المنعقد بين عامي 1962 و1965، الذي رفع مفاهيم اللاهوت المسيحي إلى مستوياتٍ أكثر تنويراً، عما كان عليه في القرون الماضية، تحديداً التي تلت نشوء إصلاحات مارتن لوثر.
أمام البابا الـ267 خيارات محدودة، لكنها بالغة الأهمية، للكنيسة الكاثوليكية وللعالم، لا لشيءٍ سوى لتماهي الملفات المشتركة، مثل الحروب والهجرة غير النظامية والمناخ والاقتصاد العالمي، التي تستلزم، بطبيعة الحال، حواراً متشعباً للفاتيكان مع مختلف الدول. كان البابا الراحل مدركاً تلك التحديات، لكن صحته لم تسعفه في القيام بمزيد من التحرّكات. مع ذلك، من شأن تعيينه كرادلة، تنتمي غالبيتهم إلى معسكره الإصلاحي، إتمام العملية الانتقالية بين بابا وآخر بلا تعقيدات.
في المقابل، المتشدّدون في الكنيسة الكاثوليكية ليسوا أقلية ضعيفة، بل تبقى لهم قوة وازنة، ذلك لأنهم يمثلون ما بمكن وصفها "الجذور"، أي أولئك الذين لا يتمسّكون بلاهوت سوى الذي يرضي تطرّفاً دينياً دفينا. مع أمثال هؤلاء، قد يكون من الصعب تأمين حوار مطلوب على مستوى العالم. لا يعني ذلك حواراً كاريكاتوريا ينتهي بعناقات ومصافحات، بل حواراً يشرع الباب أمام سؤال واحد: "ما الذي يحفّز التطرف الديني على النمو، في ظل وجود شخصيات دينية تدعي، لا انفتاحها على الآخر فحسب، بل أيضا قدرتها على قمع التطرّف؟".
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال من دون التحدّث بحرية الحقيقة، لا بالمجاملات والنفاق. الحديث في العالم اليوم صراع أديان، من شينجيانغ الصينية إلى بلاد الأميش الأميركية، شاء رجال الدين بمختلف دياناتهم التوحيدية أو لم يشاؤوا. الهروب من واقع أن هناك حديثاً اضطرارياً يجب إجراؤه بين مختلف الأديان، لن يفضي إلى حل المشكلة، بل يؤجلها حتى انفجارها. اسمعوا الشوارع الأوروبية والعربية ماذا تقول. ينقص فقط البدء بشحذ السيوف والانطلاق إلى المعركة الهرمجدونية. من كان ليحلم أنه في عام 2025 سيكون الحديث مشبعاً بأدبيات القرون الأولى؟
صادف هنا أن الفاتيكان على عتبة انتخاب بابا جديد، في خضم غليان اليمين المتطرّف في أوروبا، والغزو الروسي لأوكرانيا، والحرب على غزّة، والرسوم الجمركية الأميركية، والكلام عن القضاء على الأقليات في العالم العربي. انتخاب البابا في هذه الحالة لم يعد متّصلا بكنيسة كاثوليكية تواجه شيوعية سوفييتية أو إعادة صياغة مفاهيم دينية لشباب الألفية الحالية، بل مرتبط بقدرته هو بالذات، على الإسراع في محو علامات السقوط البارزة عالمياً، شرط ملاقاته من أطراف دينية أخرى غير مسيحية. البديل عن ذلك، من دون استغراب، إعادة تفعيل الحروب الدينية، التي لا ينتصر فيها أحد "إلى الأبد". "الأبد" منظور محدود زمنياً لمنتصرين مرحليين. ليس المطلوب باسم الحوار تغيير قناعات دينية، بل التأكيد على أن الاختلاف لن يزول، وأن إدارته لا تسلتزم صورة أو فيلما أو حملة دعائية، بل التأكيد على أن وجود مثل هذه الاختلافات والاطلاع عليها، كاف لفهم أننا سنمضي 14 قرناً آخر في مذابح فكرية ومذهبية من دون التوصل إلى نتيجة.
الأهم حالياً أن لا ينتخب بابا من معسكر الصقور الفاتيكاني، حينها سنعلم أن التباينات في أوروبا تحديداً ستزداد حدّة، وستشكل كرة ثلج، لن يكون أي بلد ومجتمع وفرد معزولاً عنها. ليست هرمجدون، لكنها أقرب خطوة إليها بانتصار المتشدّدين دينياً.