دروس سد النهضة في المغرب الكبير

دروس سد النهضة في المغرب الكبير

10 ابريل 2021
+ الخط -

قد يستغرب القارئ من العنوان أعلاه، فليس لدينا، نحن أهل المغرب الكبير، وادٍ كوادي نهر النّيل تتحكّم في مصادر مياهه دولة غير عربية. ولكن، على غرار مناطق واسعة من العالم، نعاني من فقر المياه في مفهوم جديد عوّض، في هذه الحالة، قوس الأزمات المعروفة، بقوس صراعات المياه، تحتل، في سياقه، دول المغرب الكبير حيزا كبيرا يستحق أن يُنظر في كيفية الاستفادة من دروس سد النهضة، حتّى يتعظ المغاربيون للمستقبل طبعا، مع توسيع نطاق الدّروس إلى رمزية الارتباط في القرار المصيري مع دول قد تتّخذ سياقات/ مسارات شبيهة بالتي تريد إثيوبيا، اليوم، فرضها على إخواننا المصريين في قضايا وملفات حيوية واستراتيجية.

لننطلق من الماء للاعتراف بأنه مورد شحيح في منطقة تغطي الصحراء الكبرى قرابة 80% من مساحتها، وبالتّالي فانّ الخطط الاقتصادية وتوفير الماء للسّاكنة وللزراعة تقع، برمتها، تحت رحمة ثلاثة مصادر، الأمطار والمياه الجوفية والسدود، بسبب افتقار المنطقة، من ناحية أخرى، إلى أنهار كبيرة أو بحيرات مائية شاسعة.

ولمّا كانت الوضعية بهذا السوء، فان العمل جرى، منذ استقلال الدول المغاربية، على الإكثار من بناء السدود. ولكن ليس بالقدر الكافي، بالنّظر إلى عدم توفّر الموارد المالية، وخصوصا في تونس والمغرب. وتوجه الخطط الاقتصادية، في الجزائر، إلى الصناعة التحويلية. وفي ليبيا، بالنّظر إلى الطبيعة الصحراوية، إلى التركيز على الصّناعة الطاقوية، بصفة كاملة.

على الرغم من ذلك كله، فان الموارد المائية، إلى وقت قريب، المشتركة بين البلدان المغاربية، توجد في المياه الجوفية، وبقدر كبير تقع المساحة الأكبر منه في الجزائر، وبقدر أقل في كل من ليبيا وتونس، وهو ما تم تفاهم بشأنه منذ أعوام، سمح لليبيا، في عهد حكم معمر القذافي، بإنشاء مشروع الوادي الصناعي الكبير بتنازلات جزائرية، باستخدام جزء من المياه الجوفية الموجودة بين البلدين، ما يعني أن القرار المصيري كان بين بلدين شقيقين، وتم تنظيم التفاهمات في إطار تسويات لملفاتٍ كانت عالقة، وبالأخص منها ترسيم الحدود بين ليبيا والجزائر، في مقابل استفادة ليبية من المياه الجوفية، بما يسمح بإنشاء منظومةٍ مائيةٍ متكاملةٍ لدولة فقيرة، تماما، في الموارد المائية.

المصير المشترك بين ليبيا والجزائر وليد المصالح المتكاملة التي تتوسع، الآن، لإدراك أن ما يجري في ليبيا مصلحة وشأن جزائريان خالصان

طبعا، نذكر هذا الأمر، بصفة خاصّة، هنا، لأن المصير المشترك بين ليبيا والجزائر وليد هذه المصالح المتكاملة التي تتوسع، الآن، لإدراك أن ما يجري في ليبيا مصلحة وشأن جزائريان خالصان، تشعر الجزائر أنها معنية به، بعيدا عن مناورات ومؤامرات، من هنا وهناك، تشارك دول بعينها في تأجيجها على الحدود الجنوبية الشرقية للجزائر، بيد أنها لا تدرك مدى الارتباط الاستراتيجي بين هذين البلدين، على عكس ما يظنه بعضهم.

هذا هو الدرس الأول من دروس سد النهضة، المتمثل في أنّ المصير إذا كان مشتركا بين دول لها الإدراك الاستراتيجي نفسه، على الرّغم من كل ما قد يشوبه من تدخلات ومناورات من بعض القوى الإقليمية، فانّ القرارات يمكن أن تكون سياقا لبناء المستقبل، وأنّ حصول التسويات يكون ممكناً، لأنّ المفاوضات مفتوحة، ولأن باب التسوية فيها متاح، خصوصا أن القرارات بيد البلدين (ليبيا والجزائر، هنا)، وليست بيد الممولين، القوى الإقليمية المتربصة أو القوى الكبرى ذات المصالح العالمية التي تريد رسم مستقبل قاتم لمنطقة القرن الأفريقي، انطلاقا من مشكلة سد النهضة الإثيوبي، العويصة حقا.

الموارد المائية، إلى وقت قريب، المشتركة بين البلدان المغاربية، توجد في المياه الجوفية، وبقدر كبير تقع المساحة الأكبر منه في الجزائر

يشير الدرسان، الثّاني والثّالث، إلى ملفي الشراكة المغاربية الأوروبية والارتباط المغاربي بمبادرات أمنية/ سياسية مع الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبالنسبة لملف الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس، المغرب، الجزائر، فانّ الفشل كان باديا، منذ البداية، بسبب أنّ التوقيع على الاتفاقيات الثّلاث كان بابا لتقويض أيّة فرصة لبناء التكامل/ الاندماج المغاربي، على الرّغم من أنّ قيادات البلدان الثلاثة تعلم، تمام العلم، أنّ ذلك التوجّه نحو الشمال لن يخدم مصالحها، بل تعلم، أيضا، أنّ ذلك كان ربطا للقرار المغاربي بقطب اقتصادي ودائرة إستراتيجية/ أمنية/ عسكرية عالمية، حلف شمال الأطلسي، لا تحمل أية شراكة إدراكية بين المغرب الكبير وهاتين المؤسستين، بما لا يخدم، ألبتة، المصالح المغاربية، بل يفتح الباب، واسعا، أمام ما نراه، الآن، ماثلا لأعيننا، في قضية سد النهضة، من أن القرار المصيري يُضيّق من الخيارات المتاحة، ويوجّهها نحو المواجهة العسكرية، بكلّ ما تحمله من آثار وتداعيات، أو القبول بالتسوية المرادفة لخسائر جسيمة ومكاسب صفرية، تماما. وهما خياران، بالنسبة للدرس المتاح لدول المغرب الكبير، كان من الممكن تفاديهما، لو تم التفكير في الأمر من خلال إدراك شراكاتي بين الدُّول المغاربية، لبناء الاتّحاد المغاربي بصفة أولوية وحيوية أو، بالنسبة لمصر و السودان، ببناء سد منيع كان من الممكن أن يمنع انفصال جنوب السودان، بدايةً، ثم التوجه نحو إعادة إحياء فكرة البلد الواحد بين مصر والسودان، لإبراز مدى الارتباط الوثيق بين مصيري البلدين في ملف النيل وفي غيره، مشكلة حلايب مثلا، ما كان سيقلل، بل يقضي على، التعنت الإثيوبي الماثل الآن.

نصل، تبعا لما تقدم، إلى الدّرس الثالث الذي كان فرصة لرهن القرار الاستراتيجي/ الأمني المغاربي بالتوجّه، بدلا من البناء المغاربي، إلى التعلق بمبادراتٍ وسّعت من نطاق التباعد الشراكاتي المغاربي، وفتحت الباب، واسعا، أمام ارتباط غير طبيعي بين إدراكين لا يحملان المضمون نفسه، لأن الإدراك الأوروبي/ الأطلسي، بسبب االارتباط المغاربي مع مبادرة 5+ 5 أو الحوار مع حلف الناتو، على التوالي، لم يوفّر إلاّ سوقا للتسلح، أو بابا لتوفير الحماية للمصالح الأوروبية/ الأطلسية من تهديدات الهجرة غير الشرعية أو الإرهاب، جعل من البلدان المغاربية مناولين لتلك الجهات والمؤسسات في ملفاتٍ لا تخدمها، وهو ما وسع، من ناحية أخرى، أيضا، من الخلافات، خصوصا بين الجزائر والمغرب، بعيدا عن ملف الصحراء الغربية الأممي الدولي.

ملف سد النهضة سبب لليقظة، للرجوع إلى أساسيات استراتيجية هي امتداد للتاريخ، ومنها أن السودان ومصر بلد واحد

أدّى هذا الارتباط الاستراتيجي/ الأمني، غير الطبيعي، بين المغرب الكبير وجهات خارجية إلى تأخر إدراك المكاسب الإستراتيجية/ الأمنية لانبعاث البناء المغاربي التكاملي/ الاندماجي، كما أدى إلى سحب ملفاتٍ مغاربيةٍ خالصة من المغرب الكبير لصالح جهات أجنبية، ومنها الملف الليبي، على الرغم من منح ما يمكن أن يسمى ذرّ الرّماد في العيون للمغرب، في مفاوضات بين الليبيين، ظن بها أنه يسهم في حل الأزمة. لكن، عندما حان وقت اتخاذ القرار لحل الأزمة وإنهاء الصراع في ليبيا، اتجهت الجهات الدولية النافذة إلى عواصم أوروبية، لاستكمال مخططها المستهدف فك عرى أية فرص مستقبلية لبناء كيان مغاربي، تراه تلك الجهات مُهدّدا مصالحها على الأصعدة كافة، ومنها صعيد إعادة إعمار ليبيا، أو الاستفادة من الموارد الطاقوية فيه، إضافة إلى ملفّ الارتباط بين ليبيا ومنطقة الساحل، أي أنّ الحل في ليبيا، بعيدا عن المغرب والجزائر، هو إبعاد لهما، أيضا، من التفكير في أي مشروعٍ لربط أمن السّاحل بأمن المتوسّط الغربي، وبقيادة مغاربية خالصة، جزائرية مغاربية، في المستقبل.

هي دروس ثلاثة، يمكن أن تمتد إلى دروس أكثر في ملفات أخرى، ولكن المقالة اختارت التركيز عليها، لأنها توجيه للاهتمام بالمصير المشترك الذي تمنح فرصة حصره في أيدينا، نحن أهل المغرب الكبير، بدلا من التفريط فيه، كما جرى بالنسبة لملفي الشراكة مع الاتحاد الأوروبي أو الارتباط معه، و"الناتو"، في إطار مبادرات كلها خسائر، وبدون أية مكاسب آنية أو مستقبلية. كما أن التركيز على هذه الدروس هي توجيه إلى إخواننا في مصر بأن ملف سد النهضة سبب لليقظة، للرجوع إلى أساسيات إستراتيجية هي امتداد للتاريخ، ومنها أن السودان ومصر بلد واحد، لم يكن السد باب العودة إليها، بل بداية بترك الحرب الأهلية، تستفحل في جنوب السودان، ثم عدم إيلاء انفصاله الأهمية الإستراتيجية الكافية، وصولا إلى فك الارتباط بين بناء الدولة بمصالحة مجتمعية كاملة ومعالجة ملفات حيوية بقدر ملف سد النهضة. وهي دروس كلها عظات للمستقبل، نملك، الآن، مراجعة أنفسنا، في المغرب الكبير وفي وادي النيل، لاستدراكها قبل فوات الأوان.. فهل من متّعظ؟