درس الشيخة مي
الشيخة مي رفضت مصافحة السفير الصهيوني .. هذا ليس خبرًا عاديًا، بالنظر إلى المناخ التطبيعي العاصف في المنطقة العربية، وبالأخص في البحرين.
البحرين قرّرت إعفاء الشيخة مي من منصبها .. هذا هو العادي والمنطقي، والذي ينبغي أن لا يفاجئ أحدًا على الإطلاق.
كانت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وهي وزيرة بحرينية سابقة، من العائلة الحاكمة، تترأس هيئة البحرين للثقافة والآثار منذ أكثر من سبع سنوات، تجلس في مجلس عزاء والد السفير الأميركي في بلادها، حين دخل سفير العدو الصهيوني، فرفضت مصافحته وغادرت المكان كله.
كان الرد الرسمي السريع إقالتها من منصبها بعد أيام قلائل عندما كانت تقوم بزيارة رسمية في دول البلقان، وهو الإجراء المتوقع من حكومة دولةٍ تركض في مضمار التطبيع بسرعة الفيراري، وكأنها في سباقٍ لا تريد أن يفوز عليها فيه أحد.
بالطبع، أثار هذا الموقف البطولي من الشيخة مي أمواجًا من التعاطف والدعم في أرجاء الوطن العربي، وقبل ذلك أنعش اليقين والأمل بالمستقبل في نفوس الجماهير التي تقف مشدوهةً، وهي ترى التوغل السرطاني الصهيوني في خرائط العرب، حتى باتت مناهضة التطبيع نوعًا من الجريمة، وشكلًا من أشكال الخيانة الوطنية، لدى أنظمةٍ تتفوّق على إسرائيل في صهيونيتها.
الأروع في واقعة الشيخة مي أنها تعيد الاعتبار لصورة المثقف العربي، المقاوم للتطبيع، والذي ظننا أنه أوشك على الانقراض، في ظل هذه الهرولة من مثقفين وإعلاميين عرب في اتجاه الكيان الصهيوني، استجابة، أو تناغمًا مع الهرولة الرسمية للحكومات.
الشيخة مي توجهت بالشكر لكل من دعموها وساندوها في تصرفها، قائلة "من القلب ألف شكر لكل رسالة وصلتني، وحدها المحبّة تحمينا وتقوّينا"، لكني أزعم إن هذه الجموع من الجماهير العربية المحبة لفلسطين هي المدينة بالشكر للشيخة المثقفة على موقفها البطولي، في لحظة ما بعد زيارة الراعي الصهيوني جو بايدن للمنطقة، والتي كانت مخصّصة لتوسيع مجالات التطبيع، بل والتعاون والتحالف، بين الاحتلال الصهيوني والدول العربية.
لقد فعلتها الشيخة مي، بينما يكاد المواطن العربي يشك في عروبته، ويفقد الثقة في نخبته التي مالت حسب اتجاه رياح السلطة، ويصل إلى النقطة الأعمق في قاع اليأس من إمكانية ظهور أية بادرة لمقاومة هذا الطوفان الذي يجرف الذات العربية إلى صهينة العقل والروح.
أتذكّر قبل أكثر من عشر سنوات أن الوجدان العربي العام كان عفيًا في التعبير عن الرفض لأي نشاط يحمل شبهة تطبيع، في الثقافة والفن والرياضة والاقتصاد، على الرغم من شيوع التطبيع السياسي الرسمي في عديد الحكومات العربية.
في العام 2009 كانت وزيرة الثقافة الفلسطينية بصدد توجيه دعوة لعدد كبير من المثقفين المصريين والعرب لزيارة الأراضي المحتلة تحت شعار "لا تتركونا وحدنا"، ولمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية في ذلك العام، وكان أول المدعوين شيخ الأزهر، وبطريرك الكنيسة المصرية البابا شنودة، وبالرغم من بريق الشعار والعنوان بقيت الدعوة مرفوضة لدى الغالبية من المثقفين والمفكرين، كما أن شيخ الأزهر ورأس الكنيسة لم يذهبا.
الشاهد أن المثقف العربي كان حاضرًا وفاعلًا وواقفًا على ثغور مقاومة التطبيع، مدفوعًا بحساسية فِطرية تجعله متحفزًا بالرفض، أو بالحد الأدنى التهرب من أية دعوةٍ تحمل شبهة تطبيع، لكن هذا المثقف، وبعد عشر سنوات أو أزيد قليلًا، بات باحثًا عن فرص تطبيعية صريحة ومباشرة، لاهثًا خلف قطار السلام الإبراهيمي المنطلق بسرعة في كل الاتجاهات.
من هنا وجب الشكر لومضة الشيخة مي رضي الله عنها.