"دبلوماسية اللقاح" .. معارك جيوسياسية

"دبلوماسية اللقاح" .. معارك جيوسياسية

28 نوفمبر 2020
+ الخط -

يكتسب التنافس الجيوسياسي بين دول عديدة في إنتاج لقاحات ضد فيروس كورونا المستجد وتطويرها بعداً جديداً ومهماً، في ظل دخول السباق الدولي على تطوير هذه اللقاحات وإنتاجها دائرة المنافسة الاستراتيجية، بعد إعلان 11 شركة دخول تجاربها الخاصة بالفيروس المرحلة الثالثة والأخيرة من التجارب السريرية على البشر.
طبعاً يزيد هذا التنافس الرهانات السياسية الحادّة التي بدأت ترتسم معالمها في العالم برمته، مع إعلان كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي دخول تجارب اللقاح المرحلة الثالثة والأخيرة، ليبدأ من بعدها الإنتاج والتوزيع، ليبدو الأمر كأنه أقرب إلى سباق التسلح بين هذه الدول، في ظل ارتفاع أعداد المصابين بالفيروس، والتوقعات القاتمة للأشهر المقبلة التي قد تتحوّل إلى "شتاء أسود"، بتعبير الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، الأمر الذي بدأ يرسّخ أكثر فأكثر "دبلوماسية اللقاح" بين دول عديدة.

لا يقتصر دور اللقاح ضد كورونا على الجانب الطبي، أو الاقتصادي ، بل يتعدّاه كأداة جيوسياسية لبسط النفوذ وفرض الأجندات والمشاريع السياسية 

يُشير هذا المصطلح الذي يعد فرعا من "دبلوماسية الصحة العالمية"، والذي بدأ تداوله بكثرة في الآونة الأخيرة، إلى استخدام إغراءات اللقاح، لتحقيق أغراض استراتيجية للدولة المصنعة للقاح، فاللقاح هنا لا يقتصر دوره على الجانب الطبي المتعلق بإنقاذ الأرواح، ولا يتعلق دوره بالجانب الاقتصادي الخاص بعمل شركات صناعة الأدوية ومختبراتها فحسب، وعودة الانتعاش إلى الاقتصادات في العالم، بل يتعدّاه الأمر لاستخدام اللقاح أداة جيوسياسية لبسط النفوذ وفرض الأجندات والمشاريع السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية والتقنية وغيرها. 
طلبت الولايات المتحدة مسبقاً ملايين الجرعات من اللقاح المرتقب لضمان توفير إمدادات فورية للأميركيين في المقام الأول، مع تجاهل المخاوف بشأن القدرة على تحمل التكاليف لبقية الدول، وخصوصاً دول العالم الثالث الأكثر فقراً، الأمر الذي يمهد الطريق للدول الكبرى الأخرى، كالصين وروسيا، للاستخدام المستقبلي للقاح المنتج في بلديهما أداة إكراهٍ دبلوماسيٍّ ضد الدول الفقيرة.
ومن هنا، يمكن إدراج موضوع انضمام الصين إلى مبادرة "كوفاكس" العالمية للقاحات الوقائية من مرض كوفيد 19، باعتبارها أكبر اقتصادٍ يدعم المبادرة، ضمن إطار "دبلوماسية اللقاح" الهادفة إلى تحقيق مكاسب دبلوماسية وسياسية، وفتح آفاق جديدة لها لتعزيز تموقعها على الصعيد العالمي، خصوصاً أن الصين تملك حتى الآن أربعة لقاحات دخلت المرحلة الثالثة والأخيرة من التجارب السريرية على البشر، وتعهدت، بموجب المبادرة، بتقديم قروض مالية بقيمة مليار دولار لدول عديدة، للحصول على اللقاح، على عكس الولايات المتحدة التي لم تنضم إلى المبادرة بسبب الخلاف مع منظمة الصحة العالمية، والتي تسعى، حسب وزير الصحة في إدارة الرئيس ترامب، إلى تلبية احتياجات الولايات المتحدة من اللقاح أولاً قبل مشاركة الدول الأخرى به.

يمكن إدراج انضمام الصين إلى مبادرة "كوفاكس" العالمية للقاحات الوقائية من مرض كوفيد 19، باعتبارها أكبر اقتصادٍ يدعم المبادرة، ضمن إطار "دبلوماسية اللقاح"

كذلك يمكن وضع طرح روسيا لقاح "سوبتنيكv " كأول لقاح مرتقب تم الإعلان عنه في العالم، وبأسعار تقل عن الأسعار المتوقعة للقاح الأميركي، ضمن إطار الفكرة نفسها، الهادفة لتوزيع اللقاح على أكبر عدد من دول العالم الفقيرة، لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية في المديين، المتوسط والبعيد، فدبلوماسية اللقاح الروسي هنا يمكن وضعها جزءا من حملة أوسع نطاقاً تقودها الإدارة الروسية لإعادة تأكيد مكانة البلاد قوة عالمية. فإتاحة اللقاح على المستوى العالمي لم يعد يشكل ضرورة إنسانية أو ضرورة اقتصادية فحسب، بل أصبح الأمر ينطوي على ضرورة جيوسياسية، لأن من يحقق الصدارة في السباق للوصول إلى اللقاح يمكن أن يجني مكاسب هائلة على صعيد القوة الناعمة والتأثير السياسي والدبلوماسي. ومن هنا، قد تكون "دبلوماسية اللقاح" نقطة البدء في سياسة الرئيس الأميركي المنتخب، بايدن، في حال تطلعه إلى استعادة المكانة الأميركية الرفيعة على مستوى العالم، وعودة الانخراط في الجهود الدولية ضمن مساعي منظمة الصحة العالمية لتوفير اللقاح للدول الأكثر فقراً، وعدم ترك الساحة مشرّعة للأطماع الصينية والروسية.

إتاحة اللقاح على المستوى العالمي لم يعد يشكل ضرورة إنسانية أو ضرورة اقتصادية فحسب، بل أصبح الأمر ينطوي على ضرورة جيوسياسية

وعليه، يمكن القول إنّ‬‬‬‬‬‬‬‬‬ "دبلوماسية اللقاح"، وفقاً لما سبق، تحمل، في طياتها، ما هو أبعد من مجرّد تقديم لقاح لدولة أو قارة موبوءة، مجاناً أو بأسعار رمزية، وإنّما تتحدث عن دوافع جيوسياسية يتشابك فيها جشع المال والاستثمار بجشع السياسة، فالتنافسُ المحموم بين القوى العالمية الكبرى، وتحديداً بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، في إنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد، يعكس عمقَ إدراك قادة هذه الدول وحكوماتها أهمية قضية الإسراع في إنتاج لقاح ناجع ضد الفيروس، بوصفه أداة تفوّق جيوسياسي ودبلوماسي وعلمي مهم، فالأمر بدأ يتخطى رهانات التنافس على الأسواق وتوزيع اللقاح إلى الرهانات السياسية ذات الدوافع الاستراتيجية، ما يجعل من اللقاح الموعود محور حرب جيوسياسية كبرى، تُضاف إلى الحروب والمعارك الأخرى، تجارية كانت أو تكنولوجية أو غيرها من المعارك والحروب.