"دافوس" في دور المتفرّج على كسور العالم

28 يناير 2025

ترامب يلقي خطاباً من بعد خلال منتدى دافوس بسويسرا (23/1/2025 الأناضول)

+ الخط -

استيقظت النُّخَب العالمية في مؤتمر دافوس على واقع جديد، على تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأوامره، وقدرته على جذب الانتباه وٳعادة تصوّر السلطة الرئاسية، واستخدامه (وحلفاءه) المنتدى الاقتصادي لتوجيه تحذير للنُّخبَة العالمية، فهو يتعزم متابعة وعوده في حملة "أميركا أولاً"، ويحاول تأسيس "رئاسة إمبراطورية"، فتظهر رغبته في الهروب من نظام الضوابط والتوازنات الدولية، ما يؤدّي إلى تفاقم كسور الواقع.
خيّم ظلّ ترامب على "دافوس" في نقاشات تبحث سياسة واشنطن الجديدة، ولم يتمكّن الزعماء المجتمعون في القرية السويسرية من تجنّب موضوع عودته ٳلى السلطة، وأعربت عدد من الدول، خصوصاً في أوروبا، عن قلقها بشأن العواقب المترتّبة عن السياسة الأميركية الجديدة. كشف المنتدى التنافر في ردّات الفعل على تحدّيات العالم الفوضوي، وعلى التحوّلات الجارية في محادثات جانبية بين مسؤولين حكوميين وأكاديميين ومديرين تنفيذيين. وتشير التحوّلات إلى نهاية حقبة، مع إحساس القادة بضرورة إعادة التجمّع، فرصةً لإعادة إحياء المجتمعات التي فقدت وظائفها، وتخفيف حدّة عدم المساواة العالمية المتفاقمة.
الأوروبيون هم الأكثر انزعاجاً في "دافوس" مع الذين يشاركونهم المخاوف بشأن المناخ والتجارة والذكاء الاصطناعي، ويتعرّضون للهجوم في هذه الجبهات كلّها، غير موضوع التسويات والمهاجرين ومجتمع المثليّين. ولطالما عبّر "دافوس" عن المضمون لمنطلقات نظام اقتصادي دولي جديد، من خلال وعي وٳدراك مشاكل المجتمع الدولي، وانتقال معالجتها من مُجرَّد مطالب ٳلى أهداف في حاضر ومستقبل العلاقات الدولية.

"دافوس" ظاهرة سياسية قبل أن تكون اقتصادية واجتماعية

أحد أكثر الأمور تميّزاً بشأن "دافوس"، طبيعة من يحضرونه على مستوى عالمي، وهم جميعاً مجتمعون في مكان واحد، في الوقت نفسه، ما يعني وصولاً غير مسبوق للعديد من الحاضرين إلى صانعي القرارات العالمية. وبينما يُنتقَد غالباً باعتباره ملتقىً للنقاش يخصّ 1% من الأكثر ثراءً من سكّان العالم، يستحوذون على ما يقارب ضعف الثروة الجديدة مقارنةً ببقية العالم (تقرير صادر عن منظّمة أوكسفام قُبيل انعقاد المنتدى). لقد أصبح "دافوس"، من وجهة نظر فكرية، غير ذي صلة على نحو متزايد. كانت الأجندة في رفع العولمة وتحرير التبادل، وحصل ذلك. والآن، جمهور المنتدى الاقتصادي الأبرز من مديري الصناديق، والزعماء السياسين، يدركون الرياح المتغيّرة التي تحرّك السياسة العالمية، وهناك فجوة تتعلّق بالتجارة والعولمة و"تدابير حماية أميركية لا تؤدّي ٳلى شيء، وحروب تجارية لا تنتج فائزين" (نائب رئيس مجلس الدولة الصيني دينغ شيولكسيانج).
لم تتحوّل الأمور منذ سنوات واقعاً، وبدلاً من ذلك دخل العالم حقبةً جديدةً من المنافسة الجيوستراتيجية، من النوع الذي استخدمه ترامب في خطابه المتلفز لجمهور المنتدين، "سأعرض عليكم أفضل نظام ضريبي يمكن تخيّله، وٳلا فعليكم دفع الرسوم الجمركية". وحتى لو ظلّ الأمر غامضاً، يعلم المجتمعون أنه سيتعيّن عليهم التفاوض على هذه "الصفقات"، وسيكون الأمر أكثر تطرّفاً، ويعرف الجميع مدى كراهية الرئيس ترامب للكتلة، ونفوره من أنظمتها وأسسها الليبرالية وأساليبها الدبلوماسية مع الشعبويين، الذين يتقدّمون مثله، ويعيدون الرياح المعاكسة في هجومات تجارية غير مسبوقة أمام رجال الأعمال وأصحاب الشركات والمديرين التنفيذيين لأكبر شركات العالم، وهي تعني مباشرةً الصين ودول الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، وأيضاً دول العالم الأخرى.
"دافوس" ظاهرة سياسية قبل أن تكون اقتصادية واجتماعية، وقد وجدت دعماً لها متمثلاً بأيديولوجية ترى في شعاره "التعاون لعصر الذكاء"، أمرَ الواقع التكنولوجي، الذي يتحكّم بالمواضيع من الآن وصاعداً في عملية إعداد أو تنظيم السياسة على مستوى العالم، مع التقدّم الذي يتسارع بشكل كبير، ثمرة التقاء الجهود التكنوإلكترونية وتضافرها. فترى القوة الأميريكة العظمى نفسها "أول مجتمع كليّ في التاريخ"، وتبدو مستعدّة للحفاظ على نهجها في استثمارات تقدّر بـ500 مليار دولار، ويجب على العالم النظر في كيفية تعبئة رؤوس الأموال والمبادرات لتجنّب مخاطر التبعية التكنولوجية.
تجد الهيئات التنظيمية صعوبةً في مجاراة هذا التقدّم، وفي التغيير من دون القدرة على استشراف المستقبل، والجميع معرّضون للخطر في ما يتعلّق بالقدرة التنافسية والتكنولوجية وفي أمنهم، ومن المحتّم أن يظهر مصير أوكرانيا في "دافوس" خطَّ صدع آخر مع ترامب لجهة سلام غير مكتمل مع روسيا. وتتناقص المخاوف مع التفاؤل النسبي للجهات الفاعلة في الشرق الأوسط، المستعدّة لنسب الفضل لدونالد ترامب في اتفاق وقف ٳطلاق النار في غزّة. ولا تزال التوتّرات الجيوسياسية تؤثّر كثيراً، وتعيد تشكيل سلاسل التوريد، وتؤثّر في تدفّقات التجارة وأسعار السلع الأساسية، وتزيد الضغوط التضخمية.
يتبدّى في نتائج أعمال المنتدى تشاؤم كبير بٳمكانية ٳعادة هيكلة السياسة في العالم، وسط توقّعات نمو متناقضة بين الدول المتقدّمة والدول الناشئة، وحول قدرة قادة الأعمال على تطوير آليات شاملة لإدارة المخاطر الاستراتيجية بما يتماشى مع سلوك المنظّمة تجاه القصص المطروحة: التطوّر التكنولوجي والصناعة والطاقة النووية والمركبات الكهربائية، وإعادة بناء الثقة في قضايا الحوكمة والصراعات في الشرق الأوسط، وتداعيات الانتخابات العالمية، وتنمية الرأسمال البشري، وإعادة تصوّر النمو في قضايا اللاجئين والتنوع والمرأة.

حدود "دافوس" هي حدود العولمة والأيديولوجية القائمة على وهم أن السوق وحدها قادرة على تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية

حدود "دافوس" هي حدود العولمة وحدود الأيديولوجية القائمة على الوهم الكبير بأن السوق وحدها قادرة على تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية، وأن ما يقوم به صنّاع السياسات يكفي لدعم النمو. لكن كيف يمكن للشركات التكيّف مع الاضطرابات التي تشكّل أزمةً وجوديةً عندما يقرّر لاعب رئيس في الاقتصاد العالمي تنظيم الأمور بشكل مختلف، ويهدد بعض الشركاء الذين اعتاد العمل معهم من دون اللجوء ٳلى البراغماتية؟ (كريستين لاغارد).
تدفع التوقّعات، في مقابل الواقع، بعض الدول إلى التركيز في حماية اقتصاداتها الخاصّة في غياب ٳيجاد حلول دبلوماسية لتقليل أو حلّ النزاعات. لطالما اعتمد المنتدى على المخيّلة الاجتماعية والسياسية. لذلك، فإن الانتقادات ليست بعيدةً من "دافوس"، بالنظر إلى التداخل بين الأجندات المتنافسة وتقاطع المجالات السياسية والشركاتية، ولجهة التناقض في طلب حلول من المليارديرات والنُّخَب، التي يتهمها النقاد بأنها تسبّبت في أكبر مشاكل العالم، في الٳشارة ٳلى الانقسام الذي لا مفرّ منه بين تجمّعات الأثرياء والأقوياء.
ومن الانتقادات الرئيسة الموجّهة للمنظّمين، النفاق في التركيز على تغير المناخ، مدفوعاً بوقائع حديثة مثل حرائق الغابات في لوس أنجليس، في أول خطّ صدع واضح، ٳذ أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ في باريس (2015)، ما يعني انقساماً حقيقياً في التعاون الدولي، فيما صعّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس تحذيراته، واصفاً تعطّش العالم للوقود الأحفوري بأنه "وحش فرانكشتاين" لا يرحم أحداً.
التحدّيات عديدة، وٳمكانات الردّ عليها غير واضحة رغم التطوّرات التقنية الهائلة. لا يتعلّق الأمر بتخفيف المخاطر فقط، بل يتعلق أيضاً بالمرونة وفتح مسارات تعبرها قوى متناقضة. ومع ذلك، يبدو أن منظمي "دافوس" يدركون حجم تغير الأوضاع. ٳنها قوى عصر العولمة أو قوى التفتيت في آن واحد. إنه عصر انتقالي، والمهم الحفاظ على الأضواء في وسط الانقسامات الجيوسياسية، وفي سياق هذه الجدلية بين الخصوصي والكوني، يتشكّل دور "دافوس" المتفرّج على مستوى فهم العالم.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.