دائماً هناك يمامتان
(رضا درخشاني)
اعتبرْهما الفأل الحسن، أو حتى الحظ، لو كان الحظ لك، أو اعتبرْهما المحبّة فوق بوص سطح فقير، لو تمنيّت المحبّة صباحاً لليمامتين، واعتبرْهما فرحة بشروق الشمس، كي يقولا إن الأرض ستكون عماراً، رغم أنف المُخربين والطغاة وصنّاع الحروب، وأن هناك ستكون محبّة ما باقية في الجو وعرض البحر وفوق تراب الكوكب وفي حوصلة اليمامتين أيضاً، فالسماء أكثر نبلاً ومروءة من حامل الأذى، وأن هذا الكون الواسع جداً ولا نراه إلا من خلال أمراضنا المزمنة أكثر رحابة من أخيلتنا القاصرة، سوى على الضغينة أو القتل أو الاحتلال.
اعتبرْهما إن شئتَ عناد الخير فوق كومة بوص لبيت فقير، كي يعزّز الفقير من محبّته ولا يضجر من عنفوان القسوة التي يراها في الشارع أو في مجال عمله، واعتبرهما رسالةً أو رمزاً أو لغزاً، يشير ولا يقول ولا ينطق، مثل الزهرة وريش الطاووس والبيضة الدافئة تحت صدر يمامةٍ في شمسٍ ليّنة تحبو، كي تخفّف من محبتها ومن البرد طيلة الليل، واعتبرهما مرآة ما طائرة في الكون طولاً وعرضاً، كي تسرع أنت خطواتك كل يوم ناحية المحبّة أو حتى ناحية نصيبك من تلك الدنيا من دون أن تجور على نصيب أحد، واعتبرْهما جوهر الكون، رغم أن اليمامتين لم تتخرّجا من مدرسة سقراط، ولم تدخلا إلى دروس هيباتيا بالإسكندرية، ولم تدخلا أي بوابة لأي حزب يبشّر الناس بالسمن والعسل والأرغفة، بل اعتبرْهما كسلام جاءك من أمك رغم بعد سنواتها هناك، بل اعتبرْهما كأختك ليلى التي تساندت على الجدران طفلةً قبل أن تموت من دون أن تكمل السنة، كي تجلس على الجسر وحيدةً تطوف عيونها على العالم الصغير أمامها، كالسيارات القديمة وهي تعفر التراب على النخيل الواقف على الجسر وتضحك وتكركر على الأوز حينما يخرُج فجأة من قواديس الفخّار في المجرى الصغير، بل اعتبرهما آلة موسيقية غريبة في شكل قطعتيْن منفصلتين من الطيور كي يعزفا فوق البوص اليابس سيمفونية غامضة عن الأصحاب حينما يكون العهد نقياً تحت أشعة الشمس بلا مجلس أمن أو محكمة دولية أو صناعة حدود، لأن الطيور خلقها الله قبل جوازات السفر والتأشيرات وقبل خرائط ترامب وقبل الأسلاك الشائكة وحوائط الصد، بل اعتبرْهما كمسكينين يعدّان الشاي على الحطب بجوار شجرة تين شوكي بعدما اصفرّت الثمار وارتفع الشاي فوق سطح البرّاد ناظراً للكوبين في اشتياق لملعقة السكر، بل اعتبرْهما علامة توضح لك الطريق في متاهة الكون والحياة، ولكل واحدٍ علامة تساعده على فكّ شيفرة الحظ، أو السعد، لو كان له السعد أو ينتظره. تلك العلامات عديدة، كيمامتين، أو نجمة في الليل، أو ضحكة غريبة من شخص لا تعرفه في مقهى، أو حلم جاءك بعد شقاء ما، وكانت في الحلم مسرات من ضيوف غرباء لموا خيامهم بعدما سلموا عليك، وقد أشار كبيرهم إلى سحابة أو نجمة كانت هناك، بعدها سمعت كلمات أغنية ما سمعتها أبداً، وظلت بهجة هؤلاء الناس وزيارتهم معك بسعدها طيلة النهار.
هذه الاشارات، أو العلامات، هي التي تأخُذ بيدنا من نكد الدنيا إلى واحةٍ لنا هناك، علامة لنا تهدهد طريقنا بعد ما صارت كل الطرق متعبة، وظهر الضعف علينا جلياً، هل هذا هو التعب، أم علاماتٌ أخرى على أن الرحلة مستمرّة ومدد الكائنات معك وحبل المودة هكذا هو موصول ولن ينقطع.
المعارف أحياناً لا تنير لك ظلمة الطريق رغم أهميتها، وخاصة إن كانت الوحدة أيضاً قاسية على من يطلب زبدة المعارف، في عالم قد بات لا ينظر للمعارف بعين الإعجاب، بل باتت الرساميل البراطيل والعوائد هي خزانة الدولة، والضرائب هي الطريق الملكي لإعادة قوة الممالك على الكوكب، وما عاد هناك انتظارٌ لفأل يمامة أو طاووس أو طائر الجنة أو عروسة البحر أو النيل، حينما تضيق المعارف، يأتيك الحلم أو يمامة تحدّق في يمامة فوق بوص سطح فقير، كي تعيد لك الأمل، كتلك السحابة التي جاءت هي الأخرى، وذلك الغروب الذي كان لطيفاً، فتركن كتبك بجوارك، كي تتأمل ذلك الكتاب الآخر المفتوح على محبّة ما غامضة، محبة لك، ومدد أيضاً حتى وإن كان غامضاً.