خواطر صائم في إسطنبول

خواطر صائم في إسطنبول

05 ابريل 2022

مدفع الإفطار قي ساحة السلطان أحمد في إسطنبول (2/4/2022/الأناضول)

+ الخط -

سبع سنوات بعيدا عن القاهرة، ما يعني سبعة "رمضانات" من غير السيدة زينب، والجامع الأزهر، والسلطان حسن، ومقاهي شبرا ووسط البلد وشارع شامبليون. مذاق الشهر الكريم في القاهرة "غير"، ليس عن غير مصر من البلاد، بل عن غير القاهرة من مدن، داخل مصر نفسها. الإسكندرية، بكل تاريخها، تتوقف عن الإشعاع في رمضان. يبدو الشهر فيها، كما شهدته مرارا، لطيفا، عابرا، استثنائيا، كما هو في الزمن، فيما تبدو القاهرة نفحةً من أدعية الصالحين بأن يجعل الله من العام كله "رمضان". في القاهرة رمضان هو الأصل، وبقية العام استثناء. رأيت رمضان، بحكم ظروف العمل في "التلفزيون العربي"، في مدن عربية مختلفة، بيروت، تونس، الدوحة طبعا، كما رأيته وعرفته مرّات عديدة في إسطنبول، محطة "التغريبة" الأولى.
تبدو إسطنبول المدينة الأكثر إسلامية في الشهر الكريم (هذا اعترافٌ صعبٌ على أي قاهري)، ليس بما تمنحه حاضرة الخلافة لشهر الصيام من زخم روحي.. مآذنها وقبابها وصوت القرّاء والمؤذنين الطربي "العربي" البديع، ولكن بما تتمثله من روح الإسلام في البهجة والتسامح والتنوع والاختلاف، المعنى الحقيقي للحضارة، مما جرى "تغييبه" عمدا عن أغلب بلادنا ومدننا العربية، وخصوصا مصر "المخنوقة" منذ خمسة عقود أو يزيد، بنمط "تديّن مستورد"، لا يعبر عن شخصيتها، كأنه صلاة بلا خشوع، أو جسد بلا روح.
في إسطنبول، الصيام عبادة خالصة، كما أراده الله، اختيار ديني حرّ. يصوم الصائم لأنه "يريد"، لا مجاراة للمجتمع، أو حرجا منه. لا يلاحقه محيطه الاجتماعي بالتأنيب و"التجريس" إذا أفطر، لا يلاحقه شرطي أو يلقي القبض عليه بتهمة "الجهر بالفطر"، من شاء فليصُم ومن شاء فليُفطر، لا يتوقف ذلك عند الدولة وقوانينها، بل يتجاوزها إلى ثقافة "الجماهير" المؤمنة، المسلمة، الصائمة، التي لا يعنيها "فطر" غيرها أو أسبابه، "كل نفسٍ بما كسبت رهينة". في مكتب خدمات التاكسي، أقف منتظرا دوري، بعض السائقين صائمون، فيما يجلس هذان الشيخان يشربان الشاي، في أمان. يستأذن السائق في إشعال سيجارةٍ، فأرفض، لأرى ردّ الفعل، يعتذر ويكمل طريقه، أمنحه الإذن، فيشعلها ويشرب. بين المسلّة المصرية ومئذنة جامع السلطان أحمد، تمتلئ ساحة آيا صوفيا بالزوار، من كل صوبٍ وحدب، مؤمنين وغير مؤمنين، مسلمين وغير مسلمين، صائمين وغير صائمين، الاختلاف هو الهوية، الاختلاف "متفقٌ عليه"، مطاعم ومقاهٍ (وبارات).. باعة الكستنا، والذرة المسلوق والمشوي (يسمّونه مصر)، يمنحك البائع الصائم ما لديه لتأكل أو تشرب وعلى وجهه ابتسامة ترحاب، لا يجرَح شعورَه الإيماني أنك مفطر، فالدين لله والصيام لله، وأحوال البشر ومقاماتهم تعزّ عن الحصر. يأتي المريض والمسافر (أصحاب الرخصة) والمرأة (صاحبة العذر)، كما يأتي غير المسلم، والمسلم، غير المتديّن (أصحاب الاختيار)، كلٌّ في فلكٍ يسبحون. وحين يأتي وقت "الإفطار" تمتد المائدة بطول الساحة وعرضها، وتسع الجميع، في أجواء إيمانية، هادئة، لا صراخ.. لا ادّعاء.. لا مزايدة.
نتحدّث عن "مجتمع" لا يسبقنا كثيرا. يشبهنا، في أغلب تفاصيله، عاداته وتقاليده وحبه الحياة والفن وكرة القدم، وحتى الفضول والرغبة في التدخل في شؤون الآخرين، والخوف من الغريب، و"العنصرة" عليه، "على خفيف". إسطنبول هي القاهرة، "على نظيف"، أو دمشق (خصوصا حي الفاتح). نتحدّث عن بلد شرق أوسطي أكثر منه أوروبياً، وإن كان الجيل الجديد يتطلّع إلى مزيد من "الأوربة". الإسلام في تركيا ليس ديناً فحسب، إنما قومية. الإسلام، بالنسبة لكثيرين "وطن"، حتى غير المتدينين، أو اللادينيين الأقحاح، تجد فيهم من يعتبر الإسلام كذلك.
تختلف أسباب "نضج" التديّن التركي (في بعض أوجهه)، عن تديّننا، مصريا وعربيا.. التجربة العلمانية.. الحريات الاجتماعية.. مستوى التعليم.. الثقافة.. الخطاب الديني.. الإعلام، قل ما شئت. لكننا، في الأخير، حال المقارنة، بين قوسي (الحرية والاستبداد)، مقدار ما يتمتّع به الفرد من الأولى، هنا وهناك، وما يعاني منه من الأخير، هنا وهناك، هنا الفارق، ليس في الدين وحده، في كل شيء.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان