خنفساء بشريّة في طاسة التيك توك السحريّة

"أنا الذي قلت أعاااااااا"... هكذا عرّف نفسه، وهو بطل، لولا استخذاؤه الذي استنزف بطولته، وقد فلت مني غارقاً في لجّة بحار التيك توك، فلم أقع له على أثر، وكان قد خرج من سجن صيدنايا، راكضاً، هارباً من وباء، إبّان فتح الشام الثاني.
استعطى البطل المشاهدين قائلا: اعملوا لي عشرة آلاف لايك واكسبلور وسب سكرايب، ولكم جزيل الشكر (تعلم هذا العلم اللدني بسرعة). نسيت أن أكتب له: بدلاً من الاستعطاء، قل شيئاً فداك أبي وأمي وخالتي وحماتي، إروِ لنا قصتك، فنلبيك، مشاهدو التيك توك لا يعملون الصالحات التي ذكرتها إلا ببضاعةٍ ما، وإن مُزجاة، والصيحة على فرادتها وجمالها وصدقها غير كافية لتلبيتك، فأكثر "الحواة" يمثلون أو يعظون أو يروون قصصهم، القاعدة الجديدة التي نسخت قاعدة آدم سميث في الاقتصاد، هي: دعْه يُتكتك، دعْه يصنع محتوى.
فلتعلم، وكانت صيحة نصر ودهشة لسقوط نظام عنيد عتيد، أنَّ سوق التيك توك (الحرامية كما سيأتي البرهان) مفتوحة في كل أيام الأسبوع، وليس في يوم الخميس وحده، وأنَّ صنّاع الفيديوهات البرقية يكسبون صفراء المال وبيضاء الشهرة، وأنَّ نجوم التيك توك باتوا يفوقون مارلون براندو شهرة، بأفلام قصيرة، لا يجاوز عمر الفلم منها وميض نجمة بعيدة تهوي في ثقب السماء الأسود.
تقول إحصائية إنه في كل يوم (مما تعدّون) تتنزل من الفيديوهات ما يحتاج إلى مئة سنة لمشاهدتها (ربما ازدادت تسعاً) ولا "حقوق للطبع" فيها . لا إيزو (أبو عذرتها في العربية) في التيك توك، عفواً ثمّة إيزو للموسيقا وبعض الصور المسجّلة، لكن الأفكار ليس لها حقوق ملكية، والفكرة أهمّ من التطبيقات البديعة والمحسّنات الموسيقية والبصرية "المكوّدة"، التي لها أجر وحقوق ومحاكم، وما إن تقذف موجة الخوارزمية المشاهد بفيديو مثل فيديو المناكدة بين الزوجين (زوجة تسرق طعام زوجها أو العكس) حتى تتدفّق الصور والأفلام القصبرة المنسوخة عنها، الأبطال مختلفون والمؤدّى واحد. ولا يعلم أحدٌ من هو السابق الذي أطلق فكرة هذا الفيلم القصير: تُصدر مفصلات الباب أنيناً، فيفحص البطل بابه باحثاً عن مصدر نحيب الباب المهجور، ثم يتبيّن له أنّ النشيج الحديدي مصدُره طفله الذي ينبثق من وراء الباب باكياً، وأنَّ نواحه يشبه نوح الباب من ألم المفاصل ووحشة الزيت ووعثاء السفر: إنّ الشجا يبعثُ الشجا...
وقيل (الحق أنني القائل لكني أتواضع) إنّ أقدم حرب كونية باردة هي بين الأزواج، وهي حارة أحياناً، وقد ارتفعت مناسيب الطلاق حتى فاضت وبلغت الزبى، والطلاق إيذانٌ بانتقال الحرب من حرير الأسرّة الزالفة، إلى ظلال المحاكم الوارفة.
وإنّ صاحبكم، ليضيق "بالحواة" الذين يتوسلون المشاهد أنَّ يعمل المكرمات الثلاث، إن أعجبني "محتواك" أيها الحاوي فسأعمل لك الثلاثة وذمتها من غير رجاء وضراعة، أو ذل وشفاعة (حتى تعمّ الفائدة طبعاً).
تنزلق الخنفساء بالكعب العالي في طاسة التيك توك إلى أن تنبثق خوارزمية جديدة، يتغيّر الأبطال الممثلون وهم يعصرون الفكرة نفسها، ويدبرون المقلب نفسه (مقلب سرقة الحذاء بعد حكِّ الساق مثلا)، فأدوس بنزين الهاتف ضائقًا بالذين يدّبجون ديباجات طويلة: مرة كان في واحد... أجدها جملة طويلة، ونحن في عصر تسارع السرعة، أي أنَّ السرعة تعصر أيضًا مثل البرتقال، وللسرعة قشور، تنشر على حبال الغسيل في هواتف الجيب، جملة "كان في واحد" قشرة، وللخوارزميات دبق، يعلق فيها المتابع مثل نملة في العسل، والنحلة تموت مختنقة بإبرتها، روحها في سمّها.
تخرُج ثلاث سيدات بدويات من خيمة، ملتمسات من المتابع المقدام، عمل المكرمات الثلاث لهن، من غير جهد يبذلنه؛ كأن تروي إحداهن قصة، أو تقول قولاً كريماً، أو لئيماً، أو تحرّك شفتيها بصوت مبروك عطية أو صوت سهير البابلي، وسيّان الذكر والأنثى، أو تسرق طعام زوجها، أو تطهو طبقاً بدويّاً (وللعيون أسنان كما للعشق آذان)، أو ترقص، أو تخبز جوعنا على الصنج، أو توقظ باباً ثاكلاً من نومه الحديدي فيبكي.. كان يمكن أن أقترح عليهن ذلك لولا أنه ليس لخيمتهن باب.

